الغرب: ترتيب أوضاع المنطقة بالتنسيق مع الأنظمة

TT

بلغة الصحافة، ما زال الخبر افغانيا. فنحن نتابع التطورات في افغانستان ساعة بساعة. لكن الاعلام لم يهتم، بعد، بما هو اهم، فلا يلقي بالا الى صدى ونتائج هزيمة طالبان الماحقة في المجتمعات العربية والاسلامية.

اننا نرى اكثر مما نسمع. ما زلنا متأثرين بالمشهد وكأننا لا نريد ان نسمع الصدى، وكأننا لا نريد ان نعترف علنا وصراحة بخيبة هذا «الاسلام» الطالباني الذي علقت عليه الآمال في مواجهة دونكيشوتية غير ضرورية مع العالم ومع الغرب.

وعندما تخبو اضواء المشهد الافغاني، سنكتشف رويدا رويدا عمق النكسة المعنوية التي لحقت بتيار «افغنة» المجتمعات العربية. وها هم اصحابه وانصاره في الاسلامين التقليدي والسياسي الذين «باعونا» سلفاً بطولته وجهاديته، يحاولون الآن التغطية على هزيمته وهروبه، بربطه بالقضية الفلسطينية! فيقدمون الملا عمر وبن لادن كضحيتين لقضية لم يكن لديهما اهتمام سابق بها.

وقد رأينا حالة مشابهة قبل عشر سنوات، اذ تم تقديم صدام الى الجماهير المبهورة كبطل فلسطين الصنديد عندما احتل الكويت. وكان غرضه سلب موارد بلد عربي غني لمجرد تمويل ديون العراق المترتبة على حربه التي كان قد شنها لأسلمة مَنْ؟.. «لأسلمة» إيران، وليس لتحرير فلسطين.

هل يمكن البناء من اجل مستقبل عربي افضل للعقل وللمجتمع بعد خمود هوجة «الافغنة»؟

احسب ان اعادة ترتيب اوضاع المنطقة متاحة بفعل عاملين اثنين: تحسين سلوك واداء النظام السياسي اولا، ومدى قدرة الغرب، ثانيا، على حث الانظمة العربية على تهوية مؤسساتها ورؤاها السياسية، وفي الوقت ذاته فرض حل شامل وعادل لقضية الشرق الاوسط على اسرائيل.

قد يكون مستغربا اسناد الشق الاكبر من مهمة تعقيل المجتمع العربي الى النظام السياسي وهو على هذه الحال من الجمود. لكن الزمن والتجارب علمت النظام كيف يحكم حماية نفسه وتحصين وجوده وبقائه، بحيث بات التعامل معه مفروضا بقوة الامر الواقع، ولا سيما بعدما تبين للمطالبين بالتغيير ان القوى المعارضة للنظام هي اسوأ منه.

واذا كان البديل الوحيد والجاهز نظاما افغانيا متخلفا او حتى اصوليا، فمن الافضل بقاء هذه الانظمة، ذلك ان المجتمع العربي سيفقد في ظل نظام «افغاني» حرياته الشخصية والاجتماعية، بالاضافة الى معظم حرياته السياسية المفقودة حاليا.

وهكذا، فأمر مؤسف في ظل الافغنة واستحالة المعارضة البناءة، التسليم بضرورة تأجيل المطلب السياسي وتقديم المطلب الاجتماعي عليه. وامر شاق على النفس القبول بتأجيل المطلب الديمقراطي. والعذر هو ان اي اقتراع حر سيوصل قوى اصولية غير ديمقراطية الى الحكم واحتكار مستمر للسلطة.

من هنا، فالانسب التركيز على المطالبة بقوى تغيير اجتماعي غير مسيسة بقدر كبير. ولعل الطبقة الوسطى تأتي في المرتبة الاولى. فقد ادى غيابها بالتضييق عليها في دخلها ومعاشها وخنق قيم الحرية والعقل والانفتاح لديها، الى اختلال التوازن الاجتماعي، واهتزاز الاستقرار السياسي وتآكل السلام المدني، واضطرار النظام الى مسايرة تيارات الاصولية التقليدية والسياسية.

وفي غيبة الطبقة الوسطى، نجحت هذه التيارات في تسليم عقل المجتمع ورؤاه السياسية الى تيار الافغنة الاكثر ضيقا في افقه، وصرامة وجفاء في التعامل مع مجتمعه، وهروبا وتواريا من عصره.

واستعادة الطبقة الوسطى تلزم النظام باجراء تغيير في محاور الاقتصاد الليبرالي، باعتماد التنمية البشرية، التنمية التي تتجه الى اعلاء شأن الانسان وكرامته وقيمته ورفاهيته، وذلك بالاستثمار في البنى والخدمات التعليمية والصحية والاسكانية، وفي خلق فرص عمل جديدة، وفي تسخير الاعلام للدعاية لتخطيط الاسرة وربط زيادة السكان بالانتاج، بعدما رَيَّفَ الانفجار السكاني العشوائي المدن، وارهق البنى الاساسية، وابتلع المياه ولوث البيئة.

اهمال العالم البشري والانساني جعل المجتمع ارضا مهيأة لتقبل قَدَرية الفقر بانتظار الحلول الفورية التي تبشر بها ألسنة وأفواه لا تعرف شيئا عن تعقيدات المجتمع والاقتصاد في العصر الحديث.

لقد اخفقت التنمية الاقتصادية العربية في شكلها الماركسي، وستخفق حتما في شكلها الليبرالي، اذا قام الحلف بين النظام السياسي والرأسمالية المحلية على تشجيع الاستثمار في قطاع الخدمات وفي اقتصاد يفقر المجتمعات ويحقق الربح السهل والسريع للمتحالفين.

بعد الطبقة الوسطى، تأتي الشرائح المثقفة التي يمكن اعتمادها في رفد الحياة العقلية والفكرية بالحركة وحرارة الحوار. النظام قادر على خلق توازن ثقافي في المجتمع بمنح المثقفين والمفكرين الاجتماعيين فرصة متساوية مع الدعاة والوعاظ للوصول الى العقول الشابة والاجيال الجديدة، وعدم تركها فريسة سهلة لثقافة وصائية وتلقينية تحجب قيم الانفتاح والعقل في المقدس الديني.

في المقابل، فالتنسيق بين اوروبا واميركا والانظمة العربية لاعادة ترتيب اوضاع المنطقة، لا يكفي بالاعتماد على التبادل الامني والمخابراتي فحسب في مواجهة الدولية الارهابية الافغانية وغير الافغانية. وقد ادى تركيز اميركا واوروبا على تكثيف اجراءات الوقاية والامن الى مزيد من التضييق على الحريات السياسية وانتهاك حقوق الانسان في العالمين العربي والغربي.

كان من الواجب التركيز على الانفتاح. ولعل اوروبا واميركا تأخذان بيد النظام السياسي للخروج من جموديته وقوقعته الامنية، وحثه على تشجيع القوى الاجتماعية القادرة مع الوقت على المساهمة معه في رفع غطاء «الافغنة» عن العقول وعن المجتمعات.

اوروبا واميركا لا تستطيعان غزو العالم العربي والاسلامي عسكريا. ويجب ان يسقط نهائيا خيار ضرب نظام او دولة او مجتمع في المنطقة بالقوة المسلحة، او بالحصار الاقتصادي. فقد ادى ذلك الى جمود النظام العربي وافقار مجتمعه وتقبله مزيداً من «الافغنة».

ومن السذاجة ترك العلاقة الثقافية لحوار ضيق بين كرادلة الفاتيكان والمرجعيات الدينية التقليدية. هناك حاجة الى تبادل ثقافي وفكري اوسع يشارك فيه المثقفون والمفكرون عبر لقاءات وندوات حوار علنية، بهدف اسقاط الخوف المتراكم في مخيلة المجتمع العربي من كل ما هو فكري وثقافي في الغرب والعالم.

نحن بحاجة الى تبادل اوسع بين الاكاديميين الجامعيين، بحاجة الى مؤسسات نشر وترجمة لتعريف المجتمعات الغربية القارئة بأدب العرب وفكرهم ودينهم. نحن بحاجة الى اعلام عربي دولي قادرين على تمويله، شرط ايصاله بذكاء وبدون ارهاق للرأي العام الغربي، كيلا تبقى شكوانا اسيرة جدراننا.

لقد قطعت الاصولية والافغنة الطريق على العقل العربي في رحلته للتوفيق بين التراث والفكر الانساني، ولا بد من وصل ما انقطع، لوصل العقل العربي بالتيارات المتحركة دائما في الفكر الانساني العالمي.

في التعامل مع الغرب، لا بد من الاعتراف بأن الديبلوماسية العربية سجلت نجاحا كبيرا في اقناع اوروبا واميركا بالتدخل المباشر في قضية الشرق الاوسط. وهي مطالبة ببذل جهد اكبر لاقناع ادارة بوش بالانتقال من دور الوسيط المنحاز الى دور الحكم الذي يفرض حلاً شاملاً وعادلاً على اسرائيل. وهذه هي المهمة الثانية لأميركا واوروبا في العالم العربي، ويجب ان تبقى مستمرة وغير ظرفية أو مؤقتة.

الافغنة حالة عربية مستوردة. لكنها حالة غير مستوطنة، وهي معرضة للانقشاع بالتغير السريع في المزاجية الاجتماعية والعقلية العربية. كانت الدعوة القومية حالة وطنية اقوى بكثير من الافغنة. مع ذلك فقد اخلت الطريق للعروبة الماركسية التي اخلت الساحة بدورها للاصولية السياسية.

والهزيمة السريعة للافغنة في افغانستان هي وراء ربطها الاعتباطي بالقضية الفلسطينية حرصا على استمرار زخمها في المجتمعات العربية والاسلامية. واميركا في تسليحها المتواصل لاسرائيل بما يفوق القوة العسكرية للدول العربية مجتمعة، تساهم في تحويل المجتمعات العربية الى بؤرة مستمرة للاعتقاد بأن العنف اداة الحل، وبأن الارهاب وسيلة لمعاقبة الغرب المسؤول عن بقاء اسرائيل كيانا محتلا واستيطانيا.

يبدو ان ادارة بوش باتت تدرك ذلك، إلا انها في تركها التسوية لحوار بين جانبين غير متكافئين في القوة، فهي تعرض امن واستقرار النظام العربي واوروبا واميركا الى التهديد بعنفٍ تنتجه وتصدِّره منطقة ملتهبة العواطف ومفتونة بالتاريخ.