هل يمكن مقاضاة صاحب الفتوى عن فتواه أمام القضاء الإسلامي؟

TT

احدى أهم الدوريات العلمية الأمريكية المتخصصة في القانون والقضاء واجراءات المحاكم طلبت مؤخرا من استاذ جامعي امريكي متخصص في دراسات الشريعة الاسلامية والفقه والقضاء الاسلامي ان يكتب لها مقالة عن الفتيا في الاسلام وطلبت منه بالتحديد ان يحاول الاجابة عن السؤال التالي: هل يمكن مساءلة مفت ما عن فتواه أمام القضاء في الاسلام؟

وبعبارة اخرى اذا نتج عن اي فتوى يصدرها اي شخص في العالم الاسلامي ضرر ما مباشر او غير مباشر يلحق بشخص او بمؤسسة ثقافية او تجارية او خيرية، فهل من حق الشخص او المؤسسة المعنية بالأمر مقاضاة صاحب الفتوى شرعا أمام القضاء الاسلامي وتحميله جزءا من المسؤولية بحجة ان الضرر الذي أصاب المتضرر يمكن ربطه بالفتوى؟ ولقد أشرت على الأستاذ الجامعي الأمريكي بعد ان اطلعني على الموضوع ان يسأل بعض علماء الشريعة المسلمين ولكنني لمست رغبته في محاولة تقصي الموضوع من مصادر الشريعة وأصول الفقه، ومن خلال العودة الى بعض الحالات السابقة في القضاء الاسلامي. وسوف اعود لطرح الموضوع مع القراء بعد نشر المقال لاستعراض الآراء والنتائج التي سوف يتوصل اليها الأستاذ الأمريكي المتخصص في الشريعة الاسلامية في دراسته. ولكن اهمية الموضوع لفتت انتباهي حيث شعرت بأهمية السؤال المطروح وخاصة في هذه الفترة التي ازداد فيها اعداد المفتين في العالم الاسلامي.

ومن خلال استعراضي لفهارس الكتب الاسلامية المهمة لفت انتباهي عدم وجود دراسات وأبحاث كافية عن موضوع الفتيا في الاسلام سواء باللغة العربية او اللغات الأخرى. فلا المفكرون والعلماء المسلمون الحديثون ولا المستشرقون أعطوا هذا الموضوع المهم حقه من الدراسة والتحليل. فهناك مثلا مئات الكتب والدراسات عن القضاء في الاسلام ولكن من يعود الى فهارس المكتبات العربية والاسلامية سوف يلاحظ قلة ما كتب عن موضوع الفتيا. ولكنني اعتقد ان الوضع سوف يتغير خلال السنوات القليلة القادمة. فلقد بدأ المستشرقون يناقشون الموضوع ويتأملون فيه عن كثب وخاصة بعد ان ازدادت الأهمية السياسية للفتوى واصبحت تحتل مكانا بارزا في تحديد طبيعة علاقة العالم الاسلامي بالغرب وفيما اذا كانت علاقة صدام أم حوار. وهناك مجموعة من طلاب الدراسات العليا في أمريكا واوربا الذين يكتبون الآن تحت اشراف أساتذتهم رسائل للدكتوراه في موضوع الفتيا في الاسلام، وبعضهم يكتبون عن الفرق بين القاضي والمفتي. واعتقد ان موضوع مشروعية او عدم مشروعية مقاضاة صاحب الفتوى الذي أشرت اليه آنفا سوف يحظى باهتمام كبير من المتخصصين في الدراسات الاسلامية في الغرب. وجدير بالمفكرين المسلمين ايضا ان يناقشوا هذا الموضوع باسهاب لأنهم أولى به من غيرهم واكثر قدرة على معالجته اولا، وبسبب اهميته الفقهية والسياسية والاجتماعية في الدول والمجتمعات الاسلامية ثانيا.

والسبب الذي يعطي هذا الموضوع اهميته الراهنة هو ان الفتاوى في العالم الاسلامي لم تعد في السنوات الأخيرة تصدر فقط عن العلماء والفقهاء المؤهلين شرعا الذين هم اهل لها، ولكنها اصبحت تصدر ايضا عن اشخاص متطفلين على الفقه والشريعة. ولقد سمعنا عن اطباء ومهندسين زراعيين، ومتخصصين في العلوم الطبيعية يتحولون بين عشية وضحاها الى علماء في الشريعة والشريعة منهم براء، ويفتون في مواضيع يجهلون بها الجهل كله ويكفرون بعضهم بعضا ولا يسلم من جهلهم مسلمون كثيرون. ولقد عبر عن هذا الوضع السيئ كاريكتير ساخر ظهر في احدى الصحف العربية قبل عدة سنوات يتضمن صورة اثنين من اصحاب الفتيا السياسية يتحاربان في اطلاق الفتوى والفتوى المضادة على بعضهما البعض كما يتحارب الناس باطلاق الرصاص من المسدسات والبنادق. ولا شك في ان ذلك الكاريكاتير قد تضمن شيئا من المبالغة، وان نسبة كبيرة من الفتاوى في العالم الاسلامي ما زالت تصدر ولله الحمد عن علماء أفاضل ملمين بأمور الفقه والشريعة، ولكن ينبغي التصدي في العالم الاسلامي فكريا ودينيا ومؤسسيا لظاهرة اطلاق الفتوى جزافا قبل ان تتسع ويستفحل أمرها.

ولو بقيت مسألة اصدار الفتوى مقصورة على اهل العلم الحقيقيين لما ظهرت الحاجة اصلا الى إثارة السؤال الفقهي المتعلق بمسألة جواز او عدم جواز مقاضاة صاحب الفتوى لدى الشرع وتحميله مسؤولية الضرر الذي يمكن ان ينجم عن فتواه تجاه الآخرين. ولكن دخول الجهلاء المتطفلين على الدين ساحة الفتوى أعطى الموضوع كما ذكرت اهمية خاصة.

فلو افترضنا ان احد هؤلاء الجهلاء المدعين بالعلم بالدين قد افتى في موضوع ما وان فتواه قد أدت الى قيام أحد البسطاء من عامة الناس بالاعتداء على شخص او باتلاف بضاعته او بتدمير محله التجاري او وسيلة نقل يترزق منها واذا وجد القاضي اثناء المحاكمة ان المذنب قد اقدم على فعله بسبب تأثره بالفتوى المعنية بالأمر ووجد ان الفتوى غير شرعية اي غير مستندة الى اصل شرعي، فهل يمكن للقاضي تحميل صاحب الفتوى مسؤولية فتواه والحكم عليه من باب التحريض، ام ان هناك مانعا شرعيا يحول دون ذلك. ولو ان احد المتطفلين الجاهلين او أحد المسيسين من زعماء الحركات المتطرفة التي تدعي الاسلام اصدر فتوى يسفه فيها رأي عالم جليل ويتهمه بشتى انواع التهم الباطلة، فهل يمكن مقاضاة المتطفل الجاهل مدعي الافتاء واتهامه بالقذف أم ان بامكانه رفض الاتهام على اساس ان فتواه مجرد رأي يقبل الخطأ ويقبل الصواب.

رأيت فيلما مصريا قديما يعالج مجموعة من القضايا الاجتماعية في بعض قرى الصعيد النائية. ولقد تضمنت قصة الفيلم وجود شخص يدعي العلم بالدين ويقوم بتحريض الناس على رفض جميع مظاهر التنمية الاجتماعية الحديثة المتمثلة في المدرسة والعيادة الطبية ومحاضرات التوعية والتثقيف الاجتماعي والزراعي والصحي. وانتهى الفيلم بتدخل شرطة المنطقة لحماية العاملين في مركز التنمية الاجتماعية من هيجان الجماهير العاطفية التي حرضها واثارها ذلك الجاهل الذي اتضح في آخر المطاف للجميع أمر جهله بالدين ومصلحته في مقاومة مظاهر التحديث في منطقته. فالضرر الذي يمكن ان ينجم عن مدعي العلم بالدين في جميع انحاء العالم الاسلامي قديم ومتعدد المضمون.

ولكن السؤال الجديد المطروح الآن هو سؤال فقهي شرعي يتعلق بمسألة جواز او عدم جواز مقاضاة اي صاحب فتوى عن الفتنة او الضرر الذي يمكن ان يلحق بالآخرين او بالمجتمع نتيجة فتواه. ولعل اهل العلم والمفكرين المسلمين يشاركون في اجابة هذا السؤال الهام وقد تكون افضل طريقة لمعالجة هذه المشكلة هي ضبط مسألة اصدار الفتوى وتنظيم مؤسسات الفتيا في العالم الاسلامي وتوعية عامة المسلمين من خطر فتاوى الجاهلين والله أعلم.