لا أنا (أرسطو).. ولا (أحمد سعيد)

TT

يعيب عليّ البعض قلة الكلام المفرط - ولا أدري هل كلمة (المفرط) هذه تنطبق على القلة؟! - لا أدري، ولكنني بالقطع إنسان صموت عن جدارة، و(أبو لهب) يكاد يكون مثلي الأعلى في هذه الدنيا الصاخبة الثرثارة.

ولم أدخل أي مجلس أو محفل حتى يجتاحني الصمت المطبق، بمعنى أن شفتي مطبقتان على الآخر، وعينيّ فقط ومعهما بطبيعة الحال (نظارتاي)، هما اللتان تشاهدان وتتكلمان وتتبسمان وتتعجبان وتتساءلان، وأحيانا تغيمان وتذهلان وتصابان بكثير من (التدبيل) والسهاد والإغماء أيضا.

تستطيعون بكل صدق أن تقولوا عني إنني إنسان منحرف عن جادة الصواب مثلا، أو على الأقل لا أستطيع أن (أجمّع)، وهذه احتمالات واردة وشبه صحيحة.

وأكثر ما كان يحرجني في المناسبات عندما يصرخ البعض في وجهي قائلين: انطق. لماذا لا تتكلم؟! إلى درجة أن بعضهم اتهموني (بالقنزحة) أو التكبّر أو التعالي، وبعضهم أكدوا أنني مجرد (ممثل)، وبعضهم سخروا من صمتي ووصموني بالجهل وعدم القدرة على الكلام، لأن ألفاظي بالحديث متلعثمة، أو أنني خجول لا قدرة لي على فضح وإبداء مهازلي وذنوبي التي يشيب لها الولدان، وكلهم تقريبا معهم الحق، وجانبهم الصواب كذلك.

ونكاية مني بهم، لا يزال الصمت يرين على عالمي الرحب يوما بعد يوم ويكبر، ومتعتي القصوى هي عندما أكون مستمعا، إلى درجة أنني تمنيت لو أن ربي خلق لي بدلا من الأذنين عشرا من الآذان على الأقل؛ بعضها في الأقدام، وبعضها في ظهري، وبعضها على أكتافي، وأربع منها معلقة ومدلدلة من منخاري، ولا مانع عندي أن يصورني أي مصور وينشر صورتي أمامكم على صفحة مقالي التعيس هذا.

هل تصدقون أنه (حسب الدراسات) لو حاول كل إنسان الإنصات بكل كيانه لأي محدث أمامه، فلن يستوعب من كلامه أكثر من (50 في المائة) من الحديث الذي أنصت إليه؟! هذا إذا كان منصتا.

إذن ماذا نقول عمن يتحاورون ويتكلمون دفعة واحدة؟! وإذا لم تصدقوا كلامي أرجوكم أن تتفرجوا على القنوات العربية الفضائية، وتتعذبوا مثلما أتعذب، ولتترحموا وقتها مثلما أترحم على عبد الله القصيمي، عندما زهد في العالم العربي كله ومات غير قرير العين، وقال: (العرب ظاهرة صوتية).

والصوت على فكرة من الممكن أن يخرج من الفم، أو يخرج من مكان آخر، ولكنني أظن، والله أعلم، أنه يقصد من الفم ولا شيء غيره.

عموما دعوني في صمتي الذي لا يخرجه من طوره ومكمنه ويطير عصافير قلبه غير (الوناسة)، وهي الوحيدة التي تجعله يتكلم ويهذي كالمجنون، وساعتها ليس هو وحده الذي يتكلم، حتى الجدران والأوتار والخصور تتكلم معه وترفع المواويل و(الكراعين) كذلك.

رحم الله (أرسطو) عندما جاء ضيف ثرثار وأطال الحديث معه في أمور تافهة ومملة، ولم يكن أرسطو يجيبه بشيء، فلاحظ الزائر ذلك، وقال: ربما أزعجتك، يا سيدي، بحديثي الطويل؟! أجابه الفيلسوف: لا! لا! يمكنك أن تواصل حديثك ما شئت، فأنا لا أصغي لما تقول.

وهكذا أنا أحيانا مع بعض من يتحدثون معي، على الرغم من أنني لا أنا (أرسطو) زماني، ولا حتى (أحمد سعيد)، أطال الله في عمره وأطال لسانه أكثر.

[email protected]

* تصويبات

* ورد خطأ مطبعي في المقال أعلاه، إذ جاء في بداية المقال «..ولكنني بالقطع إنسان صموت عن جدارة، و(أبو لهب) يكاد يكون مثلي الأعلى في هذه الدنيا الصاخبة الثرثارة». والصحيح هو «...و(أبو الهول) يكاد يكون مثلي الأعلى في هذه الدنيا الصاخبة الثرثارة». لذا لزم التنويه.