انتخاب رئيس مصر الجديد!

TT

مر أسبوع على الديار المصرية كان كله عجبا، ليس فقط لجيلى؛ بل إنه كان ممتلئا حتى الحافة بالدهشة لما يجري من أحداث تبدو كلمة «المفاجأة» صغيرة عليها. بدأ الأسبوع يوم السبت 16 يونيو (حزيران) الحالي حارا ورطبا، وببساطة، ليس هذا مما يسعد المزاج المصري أو يدفعه إلى الذهاب إلى صناديق الاقتراع، ومن ثم كانت الصدمة الأولى هي أن أحدا لم يذهب إلى الحفلة التي انتظرها الشعب، كما قيل لستة آلاف عام لم ينتخب فيها المصريون فرعونا ولا ملكا ولا أميرا أو واليا أو سلطانا أو حتى رئيسا للجمهورية. جاءت التصريحات الأولى خجولة بأن نسبة التصويت لم تزد على 35%؛ ورادفتها تصريحات صحافية بأن النسبة في القاهرة تراوحت بين 15% و20%. الشعب أضرب إذن عن الانتخاب، ولم تكن تهمه الحملة الانتخابية من قريب أو بعيد، ومن الجائز أنه قد بلغ به القرف مبلغه من اختيار بدا مستحيلا بين من بدا أنه ينتمي إلى نظام راح وولى وثار الشعب عليه فإذا به مرة أخرى يتصدر القائمة؛ وآخر بدا أنه ينتمي إلى نظام مضى عليه 14 قرنا، أو - لو كنت متسامحا - يعود تاريخه إلى سقوط الخلافة العثمانية. كان الاختيار بين نوعين من «الفلول» حسب التعبيرات الذائعة هذه الأيام حتى بعد 17 شهرا على ثورة قامت على «فيس بوك».

مضى الليل والعجب سائد، وكان اليوم التالي حارا كسابقه، ولكن شرارة ما انطلقت لكي تدفع الجمع المصري إلى صناديق الاقتراع، وظهرت المفاجأة الثانية عندما ظهر أن أكثر من 50% من المصريين قد شاركوا بإجمالي تعدى 25 مليونا. وهكذا، وخلال يومين متتاليين، تراوحت قضية برامج «التوك شو» العديدة بين محاولة تفسير عدم ذهاب المصريين إلى صناديق الاقتراع، ومحاولة تفسير لماذا ذهبوا بمثل هذا الزخم الكبير. وجرى ذلك بينما بدأت النتائج تتقاطر على وسائل الإعلام المختلفة اعتبارا من الساعة الحادية عشرة مساء.. مرسي أم شفيق؟ ولمن كانت الغلبة.. لنصير الدولة الدينية، أم لقائد الدولة المدنية في محطات انتخابية صغيرة لا تحتوى أحيانا إلا على بضع مئات من المصوتين؟

أصبح ليل القاهرة لاهثا بالمتابعة والعد وحساب الأصوات والجمع والطرح. كانت البداية واضحة بأن مرسي مرشح «الحرية والعدالة» يحرز تقدما، ظهر بعد ذلك أنه نتج عن فوزه في محافظات الصعيد والحدود القليلة السكان نسبيا، ومن ثم كانت عمليات الفرز فيها سريعة، على عكس الحال في محافظات الشمال والكتل السكانية الكبرى في الدلتا والقاهرة. من المرجح أن ذلك شجع المرشح محمد مرسي لكي يلقي بقنبلة كبرى في الساحة عندما دعا إلى مؤتمر صحافي في الساعة الثالثة فجر الاثنين، ليعلن فيه فوزه في الانتخابات.

فجأة تحولت المعركة الانتخابية إلى مسرحية درامية أحيانا، وتراجيدية أحيانا أخرى، وكوميدية في أحيان ثالثة. جاءت الدراما من كم التعقيد الذي بدأ يملأ الساحة، حيث بدأت الانتخابات في ظل حكم المحكمة الدستورية العليا أولا بعدم دستورية «قانون العزل السياسي» (الاسم الرسمي هو «قانون مباشرة الحقوق السياسية»)؛ وثانيا بعدم دستورية قانون الانتخابات الذي انتخب على أساسه مجلس الشعب ومن ثم طلبت المحكمة حله. وكأن ذلك ليس كافيا لما جاء من مظاهرات بدأت تملأ ميدان التحرير، فقد قام المجلس العسكري قبل بدء عمليات فرز الأصوات بإصدار إعلان دستوري «مكمل» كانت عليه مآخذ كثيرة من أكثر من معسكر سياسي، ومع ذلك، أضاف له المجلس العسكري إنشاء مجلس الدفاع الوطني الذي كانت عليه تحفظات أكثر. هذه الحزمة من الإجراءات أعطت مرشح «الإخوان» محمد مرسي ذخيرة سياسية كبيرة بدأ يستخدمها في التعبئة السياسية لميدان التحرير وميادين أخرى، وبدأت اللهجة الإخوانية تتوعد بالويل والثبور إذا لم يعلن ما هو طبيعي؛ أي فوزه في الانتخابات وإعادة مجلس الشعب إلى مكانه مهما كان رأى المحكمة الدستورية العليا.

كانت التراجيديا مصاحبة للدراما، وظهرت في حالة الرئيس السابق حسني مبارك الذي أخذت صحته في التدهور، بل كان هناك إعلان رسمي في لحظة ما بأنه مات بالفعل «إكلينيكيا». ظهر الأمر مأساويا؛ بينما ينتخب رئيس جديد، يذهب آخر إلى القبر من خلال نشرات طبية متفرقة وسط الأفراح والليالي الملاح التي بدأ مرسي إقامتها باعتباره فائزا بالفعل ولا يوجد سبب لمنعه من مقعد الرئاسة. كان ذلك كافيا لكي تستيقظ حملة شفيق حتى تعلن أولا أن ما يثيره مرسي وحملته لا أساس له من الصحة؛ وإذا كان هناك من فائز، فهو شفيق. فجأة أصبحت الأرقام التي يعلنها مرسي موضع تدقيق، فإذا بها ممتلئة بالثقوب حتى آخرها، ومع تقديم الطرفين الطعون الانتخابية في موعدها، تساءل الناس: لماذا يقدم مرسي كل هذا الكم من الطعون وقد فاز بالفعل منذ بضعة أيام؟ وهكذا بدا الأمر كوميديا أحيانا عندما أصبحت هناك غالبية من المصريين كلهم يتمتعون بقدرات فائقة على التحليل القانوني، وتبادلت حملات مرسي وشفيق إعلانات الفوز والانتقاد. وظهر أنه جرى أثناء الانتخابات استخدام أقلام لها أحبار سرية، وأن المطابع الأميرية أنتجت بطاقات للتصويت وقد تم فيها الانتخاب حتى قبل أن تبدأ العملية الانتخابية.

اختلطت الدراما بالتراجيديا مع الكوميديا في وقت واحد، وكما هي الحال في مثل هذه الأمور، بدأت عملية الحشد الشعبي في الميادين لمرسي حتى اكتشف أنصار شفيق أنه آن الأوان للنزول إلى الشارع، فاختاروا مكانا رمزيا أمام النصب التذكاري لكي يجتمع جمعهم. ولكن الحشود تستنفر، من جانب آخر، جماعة مصرية متخصصة في تمثيل الشعب المصري تحت اسم «التيار أو الطريق الثالث»، وهذه الجماعة تعتبر أن آفة السياسة المصرية منذ زمن هو انقسامها بين تيارين: تيار الدولة المصرية، وتعبر عنها أحزاب مهما تعددت أسماؤها، فإنها دائما ذات ولاء للدولة؛ العميق منها والظاهر، وتيار الإخوان المسلمين. وإذا كان ذلك كذلك، فإن علاج المعضلة السياسية المصرية لا يكون إلا بظهور تيار ثالث يقف بين الطرفين ويلعب دور الموازنة بينهما. المشكلة أن التيار الثالث الذي يأخذ أسماء عدة، سرعان ما يظهر أنه يحتاج تيارات رابعة وخامسة وسادسة بعد أن تتعدد أقسامه وجماعاته وقيادته، وكلها تحتل مساحات كبيرة على شاشات التلفزيون والإذاعة والصحافة أكثر من قيامها بعمل جدي، بينما السياسة الفعلية تجري بين المجلس العسكري والإخوان المسلمين، واللجنة العليا للانتخابات التي فرزت الطعون وقررت من يكون رئيس مصر المقبل. هل كانت هذه هي اللحظة التاريخية التي ننتظرها؟ ربما كانت كذلك، فنحن لا نعرف ما اللحظات التاريخية على أية حال، وربما أحكي لكم عنها في الأسبوع المقبل.