مرسي.. وعشيرته الأقربون

TT

لم يكن مفاجئا وصول «الإخوان» إلى سدة الرئاسة، فخلال الستة عشر شهرا الماضية، أثبت حزب الحرية والعدالة - الذراع السياسية للجماعة - قدرته على تحقيق أعلى النسب في انتخابات البرلمان والشورى، وكذلك حصل الحزب على المركز الأول في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية.

كان هناك - بالطبع - قلق وتوجس من أن يبادر المجلس العسكري الحاكم إلى إلغاء نتائج الانتخابات أو التدخل لصالح المرشح أحمد شفيق، لا سيما بعد صدور قرار من المحكمة الدستورية بحل البرلمان، والتلويح بإعادة فتح ملف «حظر الجماعة» مما يفتح الباب أمام تنحية مرشحي «الإخوان»، ولكن النتيجة ظهرت بفوز محمد مرسي رغم حملة التشكيك والهجوم الذي قاده بعض رموز «الإخوان» ضد الهيئات القضائية المصرية، بوصفها مؤسسات تنتمي للنظام السابق. لقد أصبح محمد مرسي ـ وهو كادر حزبي صعد إلى النجومية في الانتخابات البرلمانية عام 2000، بعد منع المرشح الإخواني الأصلي من الترشح ـ أول رئيس مدني للجمهورية المصرية، وللمصادفة فقد كان ترشيحه أيضا بديلا بعد تعثر خيرت الشاطر رجل الجماعة القوي في تحقيق شروط الترشح، نظرا للأحكام القضائية السابقة عليه.

مرسي استهل أول خطبة له بسيل من الآيات القرآنية والأدعية الدينية، بحيث بدا أقرب إلى خطيب جمعة، أو واعظ ديني لا إلى رئيس مدني منتخب عبر مؤسسات ديمقراطية، ولكن رغم ذلك تمكن «المرشح البديل» من إيصال 3 رسائل مهمة إلى العالم الخارجي: أولاها: أن مصر ملتزمة بحقوق الإنسان وترفض «التمييز» على أساس الجنس والمعتقد، وهي رسالة تطمين للدول الغربية القلقة من وصول الأصوليين إلى السلطة. ثانيها: تعهد الرئيس الجديد بالحفاظ على جميع المعاهدات والمواثيق الدولية الموقعة عليها، مما يعتبر اعترافا ضمنيا بمعاهدة السلام مع إسرائيل مع ما تظله من الاتفاقيات والمعاهدات التجارية، وهذه رسالة تطمين إلى إسرائيل والولايات المتحدة بشكل خاص. ثالثها: أكد مرسي أن مصر - أو لنقل تجاوزا جماعة «الإخوان» الحاكمة - لن تتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وهذا التعهد بالتحديد يخص دول الجوار العربي والإقليمي لا سيما دول الخليج.

أما على الصعيد الداخلي، فإن مرسي قدم جملة من الوعود ذات الطابع العمومي فيما يخص انفتاحه على المصريين كافة، أو بحسب تعبيره «أهلي» و«عشيرتي»، وقد وجه جملة رسائل يشكر فيها مؤسسة الجيش، وأعاد التأكيد على دور الشرطة، ونزاهة القضاء، كما وعد بانتهاج الشفافية في تسيير عمل الدولة وأجهزتها. رغم كل هذه الوعود «المعقولة»، بل والتي يمكن اعتبارها لغة استثنائية في خطاب جماعة الإخوان السياسي، فإن ثمة تساؤلا مشروعا حول صدقية وإمكانية تحويل هذا الخطاب الجديد إلى واقع عملي تقوده جماعة الإخوان التي لم تستبدل شعارها التاريخي: «الإسلام هو الحل» حتى الآن، ولكن سمحت لذراعها السياسية أن تبشر بمفردتي «الحرية» و«العدالة»، ثم إن الجماعة التاريخية لم تجر أي مراجعة فكرية أو منهجية لخطابها السياسي والتربوي منذ رفع حسن الهضيبي شعار «دعاة لا قضاة» في السبعينات، كرد فعل على الانشقاقات بين صفوف شباب الجماعة المطالبين بحمل السلاح، بل يمكن القول: إن أدبيات سيد قطب المتشددة لا تزال حاضرة في منهج الجماعة، وأحاديث رموزها المنظرين.

لا شك أن أم الحركات الأصولية في العالم العربي تحصد اليوم فوزها الأول بالسلطة التي لطالما عملت على الوصول إليها، وإذا كانت فروع الجماعة، والتيارات المتأثرة بها قد وصلت إلى الحكم - أو شاركت فيه - في هذا البلد أو ذاك، فإن وصول الجماعة الأم إلى كرسي السلطة عبر انتخابات شرعية يعد انتصارا كبيرا وتاريخيا، بيد أن الوصول إلى السلطة بالانتخاب الديمقراطي شيء، و«الحكم الرشيد» وفقا للقواعد الدستورية والمدنية العلمانية شيء آخر، هناك أحزاب وشخصيات سياسية حول العالم وصلت إلى السلطة عبر انتخابات شرعية ونزيهة، ولكنها لم تسلك بالضرورة السلوك المدني والديمقراطي، بل استغلت الدستور، وتعسفت في استخدام القانون، ومارست أبشع وسائل الدعاية والتضليل بحق خصومها السياسيين، والأمثلة في أوروبا الشرقية، وأميركا اللاتينية أكثر من أن تعد، لذا هناك أسئلة مشروعة أمام هذا التحول: هل علينا أن نصدق وعود «الإخوان» أم نكذبها؟ هل ننسى تاريخ الجماعة الطويل وتقلباتها السياسية المتعاقبة؟ هل يمكن اعتبار خطاب الرئيس مرسي بداية تغيير فكري لدى الجماعة، ودليلا على أسلوبها المستقبلي في الحكم؟ الذين يتحمسون لهذا التغيير في خطاب «الإخوان» كما بدا في خطاب مرسي يرون فرصة التغيير الذي طالما انتظروه، والفوائد الجمة في سلوك «الإخوان» طريق الاعتدال والمدنية، لكي يصبحوا حزبا مدنيا يؤمن بالتعددية السياسية والمدنية، أما الذين اكتووا بنار الجماعة، أو أصابهم أذاها في الماضي أفرادا ودولا، فهم يشكون في قدرة هذه الجماعة السرية، التي تعودت «التذلل» حتى «التمكّن» على التحول سريعا هكذا، وهم يرون أن الجماعة تستغل منذ عام 2005 شعارات «حقوق الإنسان»، ومؤسسات «المجتمع المدني» لتحقيق أهدافها للاستحواذ على السلطة.

لفت انتباهي يوم أمس مقالان كتبهما كل من الزميلين عبد الرحمن الراشد ومشاري الذايدي في هذه الجريدة، حيث أيد الراشد التوجه «التصالحي» مع «الإخوان»، بل ودعا إلى «احتواء» «الإخوان» وتقديم المساعدة لهم حتى يتمكنوا من التغيير إلى الأفضل، وحتى لا يقعوا تحت تأثير القوى الأخرى. أما الذايدي، فقد لفت إلى تاريخ الجماعة - وبالذات أدبياتها التربوية - وحذر من سرعة الانبهار بخطاب «الإخوان» الجديد، ولكن للأمانة فإن الكاتب يفرق بين التعاطي الرسمي مع مرسي - و«الإخوان» بدورهم كممثلين شرعيين للحكم في مصر - ونسيان الماضي والانصراف عن تقويم المحتوى الثقافي والاتجاه السياسي للجماعة.

في اعتقادي أن المتابعة الدقيقة لسلوك «الإخوان» منذ بداية الثورة يكشف حالة التقلب والاضطراب - وأحيانا الارتجالية - في تصريحات ومواقف الجماعة، فهم تأخروا عدة أيام عن مساندة الثورة علنا، ثم انخرطوا بها حتى زاحموا المتظاهرين الأصليين، وكانوا أول جهة هرعت إلى الحوار مع نظام مبارك في أيامه الأخيرة، قبل أن يعودوا بقوة إلى صفوف المعارضة مطالبين برحيله، وما إن رحل النظام حتى أعلنوا أنهم لن يخوضوا السباق في كل لجان الانتخابات، ولكن انتهوا إلى المنافسة عليها كلها، وزعموا أنهم سيعملون على التنسيق مع أفراد وهيئات «ثورية» بيد أنهم أخذوا قراراتهم - بأنانية كما يقول البعض ـ من دون الرجوع إلى أحد.

حتى الانتخابات الرئاسية أعلنوا أنهم لن يتنافسوا عليها، ولكن خالفوا ذلك ودفعوا بمرشحيهم إلى الصدارة. قياسا على ذلك يصعب - حقيقة - تصديق مواقف الجماعة وتصريحاتها على الأقل في الوقت الراهن، فنحن لا نستطيع أن نجزم هل يثبتون عند وعودهم أم يتنكرون لها متى ما دعت الحاجة إلى ذلك!؟ الصراع مع المجلس العسكري حول الإعلان الدستوري المكمل، وكذلك أزمة حل البرلمان سيكونان الاختبار الأول لهذه الوعود، أي هل سيسعى «الإخوان» إلى الاستحواذ الكامل على السلطة - ولهم الحق في ذلك - أم يغلبون مبدأ الاستقرار وطريق التفاوض التدريجي بغية الوصول إلى توافق مع مؤسسات الدولة وأجهزتها البيروقراطية المتعددة، بالنسبة للوضع الداخلي لمصر، فإن الاختبار الحقيقي لرئاسة محمد مرسي ينحصر بين أن يبدي ولاءه لعشيرته الكبيرة الممثلة بالمواطنين المصريين، أو لعشيرته القريبة الممثلة بالمرشد ومجلس شورى الجماعة.

فقط، الشهور المقبلة كفيلة بتوضيح الأمور، أما بالنسبة لدول الخليج، فإن وصول مرسي أو شفيق لا يهم، بقدر ما تهم لغة المصالح لا الأفراد والأحزاب، إذا ما تعهد الرئيس المصري الجديد وحكومته ببناء الثقة بين الطرفين، والتركيز على المصالح المشتركة فإن ذلك سيعزز العلاقات مع نظرائه الخليجيين، أما الدعوة إلى «احتواء» «الإخوان» هكذا بالمطلق التماسا لحسن النوايا، فإن ذلك قد يدفع بالطرف الآخر إلى استسهال المواقف، واعتبارها حقوقا مكتسبة لا علاقات قائمة على مصالح واضحة المعالم والمضامين.

المعروف الذي لا يؤسس على قواعد من الاحترام المتبادل، والمصالح المشتركة، يتحول مع الوقت إلى حق مكتسب لا إلى فروض أو واجبات تتحتم عليه، لقد كتب الزعيم سعد زغلول في العشرينات واصفا حالة النخبة المصرية التي تصدت لمشروع الاستقلال - وأراه ينطبق على وصول «الإخوان» اليوم إلى السلطة - متحسرا: «إن استمرار الوفد ممثلا للأمة، وهو على هذا الحال من التنافر، يعتبر غشا لا يغتفر! ولكن انحلاله فيه انهزام كبير للأمة وهذه جناية لا تغتفر!».