متشائل!

TT

المتشائل تعبير نحته الروائي الفلسطيني إميل حبيبي في رواية تحمل الاسم نفسه، ويعني به الجمع بين صفتي «متشائم» و«متفائل» في حال واحد جسده بسخرية ماتعة في شخصية سعيد أبي النحس الذي جسد به حالة ما يعرف بعرب الداخل في إسرائيل.

ربما كان التشاؤل هو الوصف الأكثر تعبيرا عن المرحلة القادمة بعد الفوز المستحق لمرشح «الإخوان المسلمين» الرئيس محمد مرسي، وذلك وفق قواعد اللعبة الديمقراطية، والذي جاء بفارق ضئيل جدا نسبة إلى ما كان يتوقع من حجم «الإخوان» المفاجئ، إذا ما أخذنا في الاعتبار أن هذه النسبة شملت دعم السلفيين وشباب الثورة وحزب الوسط وتيار أبو الفتوح وحتى مجموعات من غير الإسلاميين لم تر في شفيق إلا الصورة المشوهة للنظام السابق.

التفاؤل ليس بازدهار الديمقراطية، ولا حتى ببرنامج الرئيس محمد مرسي ووعوده التي أطلقها بشكل مرسل يقترب من حدود الشعارات الجميلة وبلغة التبشير بالكنف «الإخواني» الحاني، لكن التفاؤل بدخول واحد من أقدم الفصائل السياسية في العالم العربي دخولا إلى عالم السياسة وحضورا في المجتمعات العربية والإسلامية، ليس في مصر وإنما في كل دول المنطقة، وهو ما يعني الانتقال الكامل غير المنقوص من ضفة المعارضة وما تحمله من تعاطف وأعذار وتبريرات، إلى كرسي الحكم وما يعنيه من مسؤوليات واستحقاقات سياسية على واقع اقتصادي مخيف ومرعب ستشهده المنطقة لن يجدي فيه كثيرا «الورع» واليد النظيفة ما لم يُصحبا ببرنامج اقتصادي دقيق وتفصيلي قائم على أولوية الداخل المصري، كما أنه يجب أن يستند إلى استنفاد كل وسائل تحسين مستوى المعيشة، وهي مهمة لن تظهر آثارها بشكل مبكر، وإن التأخر في اتخاذ خطوات جريئة وحسم الجدل السياسي البيزنطي سيسارع بتدهور الأوضاع، وبالتالي سينعكس سلبا على أداء وتقييم مشروع «الإخوان» إجمالا، فالاختيار المبني على مشروع الثورة في مقابل النظام السابق تطلب في مرحلة ما اللعب على شعارات الهوية والنقاء السياسي والاتكاء على مرحلة جديدة لا تنتمي للنظام السابق، وهو مع قوة كل تلك الدوافع لم يحصد إلا حدود النصف، وهو ما يعطي دلالة واضحة على عدم قدرة «الإخوان» على طمأنة الشارع المصري، إلا إذا اعتبرنا أن نصف الشعب المصري «فلول» كما يردد بسذاجة سياسية مراهقو «تويتر» والإعلام الجديد. والمؤكد أنه إلى الآن ما زال هناك من يعتقد أن ثمة خللا ما جرى في عملية فرز الأصوات اعتمادا على سيناريوهات في التفاوض بين المجلس العسكري و«الإخوان»، وهو من الحديث في الماضي ومن البكاء على لبن مسكوب، إلا أنه يفتح السؤال مرة أخرى عن ضرورة وجود مراقبين دوليين في ظل أجواء من انعدام الثقة كالتي مرت بها الانتخابات المصرية.

أما الشق الثاني من التشاؤل، فأعتقد أن باعث التفاؤل هو تجربة سياسية جديدة بعد صراع وصداع استمر لثمانين عاما من قبل «الإخوان»، نسجت خلاله العديد من النظريات حول حرب العالم كله ضدهم، وأنهم مستهدفون، وها هم اليوم على المحك في أول تجربة حقيقية ليس في قطاع غزة أو في شمال السودان ولكن في مصر المنشأ والإرث التاريخي والاختبار الحقيقي لمفهوم الدولة القطرية، كما أن باعث التفاؤل هو تراجع منسوب الخوف من الفتنة الداخلية والاحتراب على السلطة والعودة إلى مربع العنف في حال فوز شفيق.

كما أن باعث التفاؤل هو ارتفاع مستوى الوعي لدى شريحة الشباب المصري رغم الأخطاء الفادحة التي ارتكبها شباب 6 أبريل والتي ستجعلهم يفقدون مع مزيد من التجريب السياسي الساذج شرعيتهم الثورية لا سيما في ظل احتقان الشارع المصري ضدهم باعتبارهم تجسيدا للصورة النمطية حول الشاب «الكول» ميسور الحال الذي لا يرضيه شيء ويريد تغيير كل شيء. مستوى الوعي المرتفع يمكن قياسه في الأصوات التي حصل عليها حمدين وأبو الفتوح، والتي لو اجتمعت في شخص واحد لما سمعنا بشفيق أو مرسي، وهذا ما سيجعل كوة الأمل مفتوحة باتساع على الانتخابات القادمة بعد أربع سنوات، وهي مدة قصيرة في عمر السياسة.

وإذا كان التفاؤل خطيئة سياسية فإن التشاؤم والحذر هو أحد أهم العناصر التي يجب أن يضطلع بها قارئ السياسة لأن تعقيداتها وبهرجتها وأضواءها تعمي عن مرتكزات أساسية في تغيير المجتمعات وأهمها الجانب الثقافي، وهو ما يدعو للقلق الشديد تجاه مستقبل مصر التي تراجعت منذ فترة ليست بالقليلة على مستوى نوعية المنتج الثقافي، وأعتقد أن الهوة ستزداد اتساعا بسبب حالة الفقر «الإبداعي» التي يعاني منها «الإخوان»، والتي أخشى أن تصبغ مشروعهم الثقافي الذي لم تقل فيه كلمة؛ بل وحتى بشكل رمزي تناول الرئيس محمد مرسي أغلب الفئات وصولا إلى سائقي «التوك توك» من دون أن يقول حرفا يخص الثقافة والفنون، وهو أمر لا يخص الحالة المصرية فحسب بل جزء من شخصية تيارات الإسلام السياسي وموقفها السلبي تجاه الفنون واللامبالي بالأدب والمسرح، وأزعم بناء على معرفة تفصيلية أن تيار ما يعرف بالأدب الإسلامي ليس نتاج الإسلام السياسي، وإنما المتحولين من القومية واليسار باتجاه الإسلام، وتلك قصة أخرى.

التشاؤم يبدأ ولا ينتهي في الحالة المصرية من الفراغ الأمني الذي خلفته الثورة من دون أن يلتفت إليه أحد بسبب صخبها. هناك قلق واضح لدى المراقبين حول استفحال مشكلة الأمن في سيناء وعمليات تهريب الأسلحة، كما أن ملف علاقة «الإخوان» بالولايات المتحدة وعلاقة الأخيرة بالمجلس العسكري ربما فتح مجددا اضطراب الإدارة الأميركية في تقييم المرحلة بين رغبتها في فاعلين جدد ومخاوفها من أن تفقد أصدقاء الأمس، لا سيما أن تأثيرات المعونة وحتى التأثير على صندوق النقد الدولي سيكون محل جدل كبير في حال تفاقم الخلاف حول انقلاب الجيش الناعم عبر الإعلان الدستوري المكمّل، وهو ما لا يجد صدى الآن بسبب حالة النشوة والفرح التي ستزول قريبا، وتبدأ الفكرة بعد أن تزول السكرة.

التشاؤم الحقيقي بعد ملف الأمن هو الملف الاقتصادي الذي يعد أحد أصعب التحديات التي سيواجهها الرئيس الجديد، فهناك عجز موازنة حكومي قيمته 22.5 مليار دولار أميركي في ظل حالة متردية للغاية للاقتصاد المصري، كما أن الاحتياطي الرسمي من العملة الصعبة قد تراجع بما يشبه الانهيار بمعدّل 1.4 مليار دولار أميركي في الشهر، وبات الآن أقل من 40 في المائة من المستوى الذي كان عليه، وحتى السياسات التي تم اتباعها لمجابهة هذه المخاطر الحقيقة أسهمت في تأزيمها، مثل لجوء البنك المركزي إلى خفض نسبة الاحتياطي مرتين بضخ سيولة مالية، لكن ذلك أدى إلى انكشاف المصارف أمام الديون الحكومية، أضف إلى تلك المحبطات الداخلية المؤشر العام للاقتصاد العالمي والذي سيتأثر بتباطؤ النمو الأوروبي، السوق الأساسية لمصر، تصديرا واستثمارا بما يشكل قرابة 60 في المائة، عدا أن التصنيف الائتماني الدولي تراجع بشكل حاد بسبب حالة الفوضى السياسية وتم تعديله ثلاث مرات في ظل أن الاستعداد للاستدانة والتفاوض مع الدول المانحة وحتى المساعدات من الدول الصديقة وعلى رأسها دول الخليج سيتطلب مرونة سياسية وقدرا من الوعي لا تعكسه الإشارات الأولية من قبل الجماعة المزهوة بالنصر ولا من قبل الحالة الثورية العامة التي لا تزال تنظر إلى ميدان التحرير كمخلص أبدي مقدس.

[email protected]