بئر الموت

TT

منذ الأيام الأولى لدراستي للآثار اليونانية الرومانية بجامعة الإسكندرية العريقة وأنا أحلم بالكشف عن مقبرة الإسكندر الأكبر ومقبرة الملكة الساحرة كليوباترا التي غنى لها الراحل العظيم محمد عبد الوهاب إحدى أجمل أغاني الزمن الجميل، وعلى الرغم من وجود احتمال أن تكون كليوباترا قد دفنت في المقبرة الملكية لآبائها وأجدادها ملوك البطالمة بالحي الملكي بالإسكندرية والذي يقبع الآن تحت مياه الأبيض المتوسط، فإن هناك بصيص أمل من خلال أدلة تشير إلى أن الملكة الجميلة قد أعدت لنفسها ولحبيبها البطل الروماني مارك أنطوني مقبرة بمعبد الإلهة إيزيس المعروف بتابوزيريس ماجنا، ويبعد عن شرق الإسكندرية بنحو 55 كم.

وبدأنا الحفائر بالموقع منذ سنوات ببعثة مصرية مشتركة مع جمهورية الدومينيكان؛ ويبدو أن الملكة الجميلة أحست بأن مرقدها الأبدي على وشك أن يكتشف، فأرسلت لي رسالة تحذير قوية عبارة عن حجر كبير سقط على مؤخرة رأسي، بينما كنت أتفقد أعمال الحفائر بالموقع. وقد نتج عن ذلك ثقب بالعين استدعى إجراء جراحتين دقيقتين بالولايات المتحدة الأميركية. وبعد عودتي عاودني الحلم المثير بالكشف عن كليوباترا التي سحرت قديما قلبي أقوى رجلين على الأرض (يوليوس قيصر ومارك أنطوني)، وحديثا سحرت قلوب علماء الآثار والمكتشفين، ويبدو أنني لم أفهم رسالة التحذير الأولى ولم ألتفت كثيرا إليها، وتغلب الحلم والخيال على الواقع، ووجدتني أنتهز الفرصة الأولى للذهاب إلى تابوزيريس ماجنا لأصل في الصباح الباكر ويستقبلني هواء البحر البكر. وأخذ أعضاء البعثة يطلعونني على ما تم من حفائر واكتشافات مهمة ومثيرة، ومنها بئر عميقة يصل عمقها إلى نحو ثلاثين مترا تحت سطح الأرض؛ ولا أعرف سببا لاعتقادي بأن الملكة الجميلة قد تكون قد أخفت قبرها أسفل هذه البئر التي تجاور مقصورة عبادة داخل المعبد.

المهم أنني قررت النزول إلى قاع البئر للكشف عما بها، ولم أكن أعلم أنني على موعد مع رسالة أخرى من الملكة، لكنها هذه المرة رسالة قاسية للغاية جعلتني وجها لوجه مع الموت؛ وكالمعتاد تم ربطي بحزام معلق ببكرة على فوهة البئر، وبدأت أنزل ببطء وصعوبة نظرا لضيق المكان، وكنت أتخبط وأرتطم بجوانب البئر وشعرت بألم شديد في كل جسدي، ولم أستطع أن أنزل أكثر من خمسة أمتار، بعدها قمت بمخاطبة إحدى الشركات التي أحضرت لنا على الفور صندوقا حديديا متصلا بونش كهربائي فوق فوهة البئر، وبدأت مرة أخرى في النزول إلى داخل البئر حتى وصلت إلى مسافة 27 مترا تحت سطح الأرض، وكل ما أحمله معي عبارة عن كشاف إضاءة صغير يزيد البئر بنوره الضعيف رهبة وإثارة، وفجأة تعطل الونش وأنا معلق لا أستطيع الوصول إلى أرضية البئر أو الخروج منها؛ وأصوات العمال وأعضاء البعثة يحاولون أن يطمئنوني بسرعة إصلاح الونش رغم نبرات الخوف والهلع الواضحة في أصواتهم. وظللت ساكنا للحظات سرح فيها خيالي في كل المخاطر والمواقف الصعبة التي تعرضت لها خلال عملي بالحفائر الأثرية، وتذكرت حادثة الحجر ثم صعوبة النزول إلى البئر في المرة الأولى وبعدها إصراري على النزول، وهنا وجدتني أبتسم وأقول بصوت مسموع مولاتي الملكة الجميلة الساحرة آسف لقد وصلت رسالتك ولن أحاول إزعاجك مرة أخرى..