الدستور الذي تريده مصر

TT

ظاهرة الدساتير المكتوبة حديثة نسبيا، ذلك أن عمرها يقل عن ثلاثة قرون. وعندما نتكلم عن الدساتير المكتوبة، لا نخلط بين ذلك والنظام الديمقراطي، فقد وجدت صور من النظام الديمقراطي البدائي بمعنى قدر محدود من المشاركة الشعبية في السلطة منذ الأزمنة السحيقة. ظهر ذلك في المدن اليونانية، وظهر ذلك في بعض مراحل الإمبراطورية الرومانية، وعندما جاءت الأديان السماوية - المسيحية والإسلام - حاولت أن تحرر الإنسان من ربقة العبودية. وكان للإسلام في ذلك باع كبير.

ولكن الحديث عن الديمقراطية بصورتها التي تقترب مما نعنيه حاليا، لم تبدأ إلا في المملكة المتحدة - إنجلترا - خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، ثم تكاملت صورة النظام الديمقراطي الحديث بعد حرب الاستقلال التي خاضتها الدويلات الأميركية ضد الاستعمار الإنجليزي، وبعد قيام الثورة الفرنسية في أخريات القرن الثامن عشر، حيث انتقل النظام السياسي في العالم من طور إلى طور آخر مختلف تماما.

ومع ذلك، فإن التطور لم يتوقف عند الثورة الفرنسية أو في أعقابها بقليل، وإنما استمر وأظنه لن يتوقف؛ فإن آمال الشعوب وتطلعاتها لا تتوقف عند حد.

والذي يعنينا هنا هو الحديث عن الدستور الذي تريده مصر بعد ثورة 25 يناير 2011، وإزاحة آخر الفراعنة المصريين عن عرشه.

ومصر لديها ميراث دستوري يمتد إلى عهد الخديو إسماعيل حيث بدأت تعرف معنى الدستور أو النظام الأساسي. صحيح أن الاحتلال البريطاني عصف بهذه البدايات المحدودة وكان علينا أن ننتظر حتى قيام ثورة 1919 ضد الاحتلال البريطاني للمطالبة بالاستقلال والدستور. ودخلت مصر مرحلة من الليبرالية والاستنارة الفكرية ظهر فيها كتاب عظام من أمثال طه حسين وعباس محمود العقاد وسلامة موسى وأحمد أمين وتلاميذهم من بعدهم، وظهرت أحزاب سياسية كان أهمها حزب الوفد، الذي مثل الأغلبية الشعبية آنذاك، وظهر فنانون كبار في مقدمتهم أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب والنحات مختار وغيرهم وغيرهم.

وبعد إعلان تصريح 28 فبراير (شباط) 1923 من جانب بريطانيا بإعطاء مصر قدرا من الاستقلال المنقوص وتنصيب السلطان فؤاد ملكا على مصر ورضوخ الملك فؤاد للمطلب الشعبي بإصدار دستور، شكل الملك لجنة من كبار رجال القانون وكان فيها شيخ الأزهر والمفتي وبابا الكنسية المصرية، وكان عدد أعضائها ثلاثين شخصا معينين من قبل الملك، ولكنهم كانوا في الواقع يمثلون الكثير من طوائف الشعب.

ورفض حزب الوفد في البداية هذه اللجنة وأطلق عليها لجنة الأشقياء، إلا أنه تبنى بعد ذلك الدستور الذي وضعته اللجنة والذي عرف باسم دستور 1923.

وكان دستور 1923 دستورا برلمانيا خالصا، الملك فيه يملك ولا يحكم. والسلطة التنفيذية بيد مجلس الوزراء. والبرلمان مكون من مجلسين: مجلس النواب ومجلس الشيوخ، والقضاء يتمتع باستقلال كامل. وقد استعانت لجنة وضع الدستور بالدستور البلجيكي الذي كان ساريا آنذاك باعتباره دستورا ملكيا. كذلك استعانت أيضا بالدستور الفرنسي - دستور الجمهورية الثالثة.

وأجريت الانتخابات الأولى وفاز حزب الوفد بأغلبية كاسحة وشكل أول حكومة برلمانية. ومنذ بداية الحياة النيابية الديمقراطية، ظهر واضحا أن ملوك مصر يرفضون الحياة الدستورية ولا يريدون الانصياع لها. وعملوا على تعطيل الدستور أكثر من مرة، سواء في ذلك الملك فؤاد أو ابنه فاروق. وكانت أحزاب الأقلية التي لا تستند إلى إرادة شعبية تساند العرش، وكان حزب الوفد هو الذي يقف للملوك بالمرصاد.

ويوشك دستور 1923 أن يكون قد طبق في الفترة بين 1923 و1952 أقل من عشر سنوات، وبقية الفترة كان معطلا عملا.

وفي 23 يوليو (تموز) 1952، أطاح تنظيم الضباط الأحرار بكل تلك المرحلة ونظامها السياسي، وبدأت مرحلة جديدة مختلفة تماما في وسائلها وفي توجهاتها. وشاهدت مصر في تلك المرحلة الميثاق الوطني وعددا من الدساتير التي لم تستقر نظرا للتغيرات السياسية وقيام الوحدة مع سوريا ثم انفصالها ثم وفاة الرئيس جمال عبد الناصر ومجيء الرئيس السادات، ثم صدور دستور 1971 الذي ظل يحكم مصر نظريا حتى 25 يناير 2011.

وبعد « ثورة» 25 يناير، دخلت مصر مرحلة جديدة، وقد مضى على هذا التاريخ الآن عام ونصف عاشت مصر فيها مرحلة من القلق والاضطراب غير المسبوق.

وفي أعقاب 25 يناير 2011 وتنحية الرئيس السابق عن الحكم وتولي المجلس الأعلى للقوات المسلحة السلطة في البلاد بناء على الإعلان الدستوري الذي صدر في مارس (آذار) 2011، تعاقبت عدة حكومات في تلك الفترة التي كان من أبرز ما فيها تشكيل مؤتمر الوفاق القومي الذي ضم الكثير من أساتذة الجامعات وممثلي الأحزاب السياسية والنقابات وقاطعته جماعة الإخوان المسلمين رغم دعوتها. والحقيقة أن هذا المؤتمر كان فرصة رائعة لتداول الرأي حول الدستور الذي يليق بمصر في أعقاب 25 يناير. وكان الاتجاه الغالب في ذلك المؤتمر هو أن يوضع الدستور أولا باعتباره هو أساس السلطات وهو الذي ينشئ السلطات الأخرى ويحدد اختصاصاتها وعلاقاتها ببعضها وعلاقاتها بالمواطنين وحقوق المواطنين وواجباتهم وحرياتهم.

ولكن هذا الاتجاه الغالب لم يؤخذ به وتغلب الرأي القائل بإجراء انتخابات مجلس الشعب أولا وبدأ الاضطراب والقلق، ذلك أن البدايات الخاطئة لا تأتي إلا بنتائج خاطئة. وتم تدوين أعمال مؤتمر الوفاق القومي بواسطة أمانة مجلس الشعب. وبعد ذلك، ظهرت وثيقة الأزهر، ثم وثيقة الحريات الأربع، ثم وثيقة السلمي. وفي وقت أو آخر، أبدى الكل موافقته على كل هذه الوثائق، ثم انسحب البعض لحسابات خاصة.

المهم الآن.. ما الدستور؟ وكيف يوضع؟

وقد يكون ذلك محلا لمقال آخر بعد هذه المقدمة التي طالت بأكثر مما ينبغي والتي أتصور أنها لا تخلو من فائدة تاريخية وعلمية.

وعلى الله قصد السبيل.