مرسي.. الأول أم الأخير؟

TT

لا يملك أي مواطن عادي أو خبير متخصص ومتمكن، القدرة على قراءة ما سيحدث في مصر جراء الانقلاب الجذري الذي تجسد باختراق الإخوان المسلمين للنظام المصري على مستوى القمة، وذلك بسبب الاكتساح المفاجئ الذي قام به «الإخوان» لنظام بني من ألفه إلى يائه على مقاس التحالف الراسخ بين القوات المسلحة ذات النفوذ القوي في الحياة المصرية، والداخلية التي شكلت مؤسساتها وحتى أفرادها الإسمنت المسلح شديد القوة في الحفاظ على النظام عبر التحكم المطلق بمقومات بقائه واستمراره.

لقد بدت المسافة بين ليمان طره، حيث رمز السجون المصرية التي استوطنها «الإخوان» منذ تأسيسهم، والقصر الجمهوري الذي كان محرما على غير الجنرالات الاقتراب منه، فما بالك بالجلوس على مقعده الذهبي؟ بدت المسافة بين المكانين كما لو أنها بضعة أمتار قليلة مفروشة بالرمل الناعم، قطعها السجين المصري السابق محمد مرسي ليجلس على مقعد السجين الحالي محمد حسني مبارك، في لعبة قدرية لتبادل الكراسي، فأظهر أن التغير الجذري كما لو أنه حلم ليلة صيف لا أكثر ولا أعمق.

بلوغ «الإخوان» قمة السلطة في مصر صعودا على سلم انتفاضة شعبية غير متوقعة وغير معد لها، سيفرض على المحللين والمتنبئين أن يبدأوا تقويمهم للأوضاع منذ اللحظة.. ذلك أن سياق النظام المألوف تغير تماما، وسياق «الإخوان» وهم في القصر سوف يتغير كثيرا، وهنا يتعين البدء بقراءة الرسائل الموجهة من الإخوان المسلمين، والرئيس مرسي بالذات، في سيـــــاقها الموضوعي، ويستحسن عـــدم التجمد عند المــــــواقف الســــــابقة.

أولا: إعلان الإخوان المسلمين أن مرسي لم يعد عضوا عندهم ولا في حزب الحرية والعدالة يحمل اعترافا صريحا بأن «الإخوان» لا يحملون بشرى أمل للشعب المصري من خلال نجاح مرشحهم أو برنامجهم، إذ إنهم يدركون – وهذا سبب الإعلان – أن مخاوف المصريين من رئاستهم وحكمهم أكبر بكثير من طمأنينتهم لهذا الحكم، لذلك سارعوا إلى توجيه هذه الرسالة التطمينية والتنصلية، أما هل سيصدق المصريون هذا الإعلان ويطمئنون إليه؟ فالدلائل الأولية التي ظهرت خلال العام المنصرم تشير، بل تؤكد أن لا طمأنينة مستقرة لهذا الحكم، وعلى «الإخوان» قبل غيرهم أن لا يسيئوا قراءة الأصوات والبناء على الفرق الضئيل بين مرشحهم ومرشح خصومهم.

إن نجاح ممثل حزب أو تيار في أي انتخابات، في السياق المنطقي، مدعاة للتمسك بالحزب وأدبياته، وفرصته التاريخية في الحصول على شرعية الحكم للبلاد والعباد وفق توجهات الحزب الفائز ومنهجه في الحكم، أما مسارعته للتنصل فهذه إشارة دامغة على أن البرنامج لم يكن طرح من أجل التطبيق وإنما جاء في غمار الحملة الانتخابية، أي أنه وسيلة للنجاح في الانتخابات وليس برنامجا لتغيير السياسة والاتجاه.

الرسالة الثانية: وقد حرص الرئيس المنتخب على أن يوجهها للعالم، والمعني هنا في المقام الأول إسرائيل، وفي المقام الأول أيضا الولايات المتحدة وأوروبا ودول الاعتدال العربي والإسلامي، وهذه الرسالة التي تضمنت التزاما صريحا وقطعيا بالاتفاقات المبرمة بين مصر وإسرائيل تحت عنوان الالتزام بالاتفاقيات الدولية!! هي المفتاح الذي أدار «أكرة» الباب المغلق أمام «الإخوان» وفتح عليهم كنوز الاعتراف والترحيب الذي لم ينتظر ساعات كي يتدفق منهمرا بكثافة، بدءا بإسرائيل نتنياهو وأميركا وانتهاء بأي دولة في أي مكان من هذا الكون.

إن رسالة مرسي لإسرائيل وأميركا، على الرغم من الحرج من ذكر الأسماء بصراحة، حيث ستذكر في وقت لاحق بالتأكيد، كانت من المحرمات الإخوانية في كل الأوقات التي سبقت يوم إعلان الفوز، إلا أن هذا المحرم ذاب وتلاشى على أعتاب القصر الجمهوري، ولا مناص من الالتزام بسياسات مناقضة كلما توغل ساكن القصر الجمهوري في ولايته وأدائه لمهامه.

الرسالة الثالثة: لقد أكثر الرئيس مرسي من القول إنه رئيس كل المصريين، وهذه كلمة أكثر من قولها كذلك منافسه الفريق أحمد شفيق، وكلمة كهذه مع أنها حقيقية بالمعنى الدستوري والسياسي والوطني، إلا أنهـــــا لن تكون حقيقية وذات مصداقية إلا إذا قال الشعب المصري بأغلبية واضحة: إن هذا الرجل أثبت بالفعل وليس بـــــــالقول أنه رئيس المصريين جميعا.. ذلك لن يتم بفعل قوة المنطق واللغة والحجة، فـ«الإخوان» خطباء بارعون، حالهم كحال كل الدعـــــــاويين في كل العصور، بل يتم حين يقرأ المصريون جميعا أخبارا متواترة ومتصــــــــاعدة حول إنجازات من يحكمهم، ويلمسون بوعيهم وأعينهم هذه الإنجازات، وهنا وفي مصر بــــــــالذات لن تنفع البلاغة الخطابية، ولا الاستعانة المفرطة بالآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة، ولا بشعار «الإسلام هو الحل» يطبع كالملصق فوق كل مشكلة مستعصية.

المصريون ليسوا بحاجة إلى من يدلهم على قدسية الإسلام وسداد آياته وأحاديثه الشريفة وسنته، فهم بحاجة إلى من ينهي معاناتهم المتفاقمة، ويجعلهم يشعرون حقا بأنهم إما تخلصوا من هذه المعاناة، أو أنهم في طريق واضح ومضمون النتائج في هذا الاتجاه، فإن لمسوا ذلك فسيقولون لمرسي: ابقَ لفترة ثانية كي تستكمل الإنجازات المدهشة التي لمسناها، وقد يصرون على أن يكون الرئيس الثاني من بعد مرسي من ذات الطينة والعجينة، أما إذا حدث غير ذلك، وخصوصا التمادي في تلبيس مبارك بعد زواله كل آثام المـــــــاضي وعجز الحاضر والمستقبل، فساعتئذ سيجد مرشح الإسلام السياسي صعوبة في تجاوز المرحلة الأولى، وقد يكون مرسي أول وآخر رؤساء هذا الفريق.

من أجل مصر، ومن أجل الأمة العربية كلها، ومن أجل الغد الذي نأمل أن يكون أكثر إشراقا، نتمنى لرئيس مصر المنتخب نجاحا لافتا يجعلنا نندم على تخوفنا منه، ولا نتخوف عندما نضع اسمه مرة أخرى في الصندوق.