نحن وجان جاك روسو

TT

في سنة 1899 شرع فرح أنطون في إصدار مجلة «الجامعة» ومنذ العدد الأول من المجلة، وفي كل الأعداد المحدودة التي ظهرت، نجد أن المفكر اللبناني يصدر «الجامعة» بالجملة التالية: «يكون الرجال كما تريد النساء، فإذا أردتم أن تكونوا عظماء وفضلاء، فعلموا النساء ما هي العظمة والفضيلة». وأسفل القول السابق يكتب اسم جان جاك روسو، وهكذا فإن القول المذكور وصاحبه يغدوان شعارا للمجلة. وبعد بضع سنوات يقوم برحلة إلى فرنسا فيحدثنا في أحد كتاباته عن أنه قد آلى على نفسه أن يزور متحف روسو، وكذا المدينة الفرنسية التي قضى فيها صاحب «العقد الاجتماعي» شطرا من حياته قبل أن يقبر فيها. وبعد أقل من عقدين من الزمان سيقوم مفكر مسلم، هو محمد حسين هيكل، بإصدار كتاب عن جان جاك روسو، لعله أول كتاب يخصص للكاتب الفرنسي - السويسري الأشهر. وبالجملة يصح القول إن عموم مفكري عصر النهضة وشطرا غير قصير من النصف الأول من القرن العشرين، قد أظهروا إعجابا غير قليل بروسو، فكتبوا عنه كثيرا، كما تمت ترجمة «اعترافات روسو» و«العقد الاجتماعي» وفصولا من كتاب «إيميل».

الحق أن القرن الثامن عشر (الفرنسي خاصة) قد عرف من المفكرين العرب، مسلمين ومسيحيين على السواء، اهتماما ملحوظا. ربما لم يكن الأمر يخلو من تعميمات خاطئة في إصدار الأحكام (منها، على سبيل المثال، إدراج اسم روسو ضمن فلاسفة عصر الأنوار وعده من جماعة فولتير وديدرو وهولباخ وغيرهم، في حين أن خصومات شتى قد قامت بين روسو وبين كل من ذكر من أشخاص) ولكن مؤلف «العقد الاجتماعي» يذكر في زمرة مفكري عصر الأنوار ومن دعاة الثورة على القديم. وسواء تعلق الأمر بقراءة مباشرة لكتابات روسو - وهذا ما كان يحدث في النادر - أو كان الشأن يرجع إلى أحاديث عن روسو واتصال بفكره بتوسط كتاب لم يكونوا دوما من أهل الاختصاص، فإن للمفكر الشهير مكانا، بل مكانة متميزة، في الوعي الثقافي العربي ومنزلة لا يحظى بها إلا القلة من قادة الفكر الحديث والمعاصر عند المثقفين العرب المعاصرين.

الصلة بين الفكر العربي المعاصر وبين جان جاك روسو، تستحق أن تفرد لها أبحاث أكاديمية. في أحاديث روسو عن «حالة الطبيعة» (والتغني بفضائلها)، وكذا عن التربية السليمة التي تتوخى الكشف عن الجوانب الطبيعية الكامنة في النفس البشرية، يجد الفكر العربي المعاصر جوانب تستهويه، بل ربما وجب القول إنه يجد نفسه في روسو أكثر مما يجدها عند غيره من مفكري المرحلة القريبة. والفكر العربي المعاصر لا يزال يجد في أحاديث روسو عن الحرية، والإرادة العامة، والانتخاب، والتعاقد الاجتماعي، وفي الكلام عن الشعب، والسيادة، ومواضيع أخرى تتصل بها، الكثير مما يفتقده ويتوق إليه. يكاد اسم جان جاك روسو يحضر بكيفية تلقائية تقريبا كلما ذكرت الديمقراطية والشعب والحرية والحق في التعبير وفي الاختلاف، وبالتالي في جوانب شتى من الأمور التي لا تزال تفتقد في وجودنا العربي الاجتماعي - السياسي المعاصر.

قبل أشهر قليلة قام عبد الله العروي بتعريب كتاب جان جاك روسو «عقيدة قس من جبل السافوا». هذا الفعل، من قبل المفكر العربي الشهير، يستوجب وقفة تأمل لا يتسع لها المجال اليوم، كما أن من شأنها أن تبعد بنا، مع أهميتها الجلية، عن موضوع حديثنا. بيد أننا، على كل، نعرض لمغزى عمل صاحب «الآيديولوجية العربية المعاصرة» من حيث صلته بروسو، وعلى وجه التحديد من جهة صلتنا، نحن العرب، بجان جاك روسو ومكانته في وعينا الثقافي العربي المعاصر.

يملأ الأستاذ العروي المشهد الثقافي العربي منذ نهايات ستينات القرن الماضي، أي منذ صدور الترجمة العربية الذي لمحنا إليه أعلاه. أصدر العروي، بعد الكتاب المذكور، سلسلة من الكتب التي تناولت مفاهيم محورية في الفكر المعاصر «الآيديولوجية»، «الحرية»، «الدولة»، «العقل»، «التاريخ»، وكتبا أخرى نذكر منها «العرب والفكر التاريخي»، «السنة والإصلاح»، «من ديوان السياسة»، وكتبا غير تلك باللغة الفرنسية. في كتابة عبد الله العروي يبدو الفكر العربي المعاصر هما ثابتا، وانشغال المفكر بقضايا النخب والسياسة انشغالا محوريا، مع اعتبار الثقافي المحور والأساس. منذ «الآيديولوجية العربية المعاصرة» نجد الرجل، باعترافه نفسه، يدور حول قضية محورية، إليها ترتد جملة القضايا الأخرى في نهاية الأمر. قضية يصح إجمالها على النحو التالي: كيف يمكن للعرب أن يستوعبوا الفكر الغربي الليبرالي (والمرحلة الليبرالية برمتها) دون المرور بالمراحل التي عرفها الفكر الغربي؟ وبعبارة أخرى: هل في إمكان العرب أن يقوموا بتحقيق نوع من الاختزال التاريخي يفيدون فيه من الدرس الذي تعلمته الإنسانية في الغرب الأوروبي دون حاجة إلى دفع ثمن غير يسير من الحروب والشرور؟

ليس غرضنا أن نعرض لفكر عبد الله العروي ولا مناقشة إشكاليته المحورية. نود فقط أن نوجه العناية إلى أننا نجد عند العروي تمثلا ممتازا للفكر الغربي في العصر الليبرالي على نحو يستهدف استخلاص الدرس والعظة بالنسبة لنا، نحن العرب اليوم، مع معرفة أكاديمية رصينة. بيد أن سؤالا منطقيا يجابهنا: لماذا يختار المفكر العربي النابه، بعد مسيرة فريدة من العطاء ومن الوضوح في الرؤية خاصة، أن يقبل على تعريب نصوص من التراث الليبرالي، فقبل سنة واحدة أظهر تعريبه لكتاب مونتسكيو «أسباب عظمة الرومان وأسباب انحطاطهم»، واليوم يترجم هذا النص، الذي يكاد يكون منسيا، من نصوص روسو؟

يجيب الأستاذ العروي عن هذا السؤال إجابة أولى في الجملة الأولى من تقديمه للنص المعرب بأن الاختيار لم يكن اعتباطيا، ثم يتساءل بصورة أكثر وضوحا: «ما الفائدة إذن لنا، قراء العربية، من نقل نص جان جاك روسو، يضعه الغربيون في سياق فلسفة الدين من ديكارت إلى كانط؟». والجواب عند المفكر المغربي أن مطلبه تحقيق فائدة مزدوجة (هي التي يلمح إليها منذ الجملة الأولى من التقديم) وهي «القيام بتجربة ذهنية معينة تساعدنا في آن على فهم كتاب روسو وكتابات إسلامية شبيهة». والكتابات الشبيهة في الفكر الإسلامي متعددة، فضلا على أنها معروفة ومشهورة. ما يستهوي العروي، كما يصرح لنا، هو التجربة الوجدانية التي مر بها «القس الجبلي» كما يتحدث عنه روسو. مصدر الاستهواء، عند العروي، هو أن « كلام روسو في عقيدة القس الجبلي ليس عن الدين بقدر ما هو عن الهم الديني». لنقل، بكيفية أخرى، إن الهم الذي يبديه جان جاك روسو في حديثه عن عقيدة القس الجبلي هو عين الهم الذي يبدو أن الأستاذ العروي يحمله بالنسبة للوجود الفكري العربي اليوم.

يصح القول إن تعريب نص روسو يغدو عند صاحب «الآيديولوجية العربية المعاصرة» ذريعة، مثلما كان كبار المفكرين في الشرق والغرب على السواء يقبلون على نقل نصوص مخالفة لثقافاتهم إلى اللغة التي يجيدها أهلهم. قرأت وأعدت قراءة تقديم العروي لتعريبه لنص روسو فكنت، بعد الفراغ من القراءة وربما أثناءها أيضا، أزداد اقتناعا بأن الترجمة الأنيقة (تلك المصاحبة بشروح توضيحية ذات فائدة عالية بالنسبة للقارئ العربي، مع حرص شديد على الوقوف على النصوص الأصلية التي يعرض لها روسو أو يكتفي بالتلميح لها) هي مجرد ذريعة. ترجمة العروي لنص روسو، هي كيفية لكتابة نص مفهومي عن الدين، نص يجد مكانه بجانب الكتب التنويرية السابقة: «الآيديولوجية»، «الحرية»، «الدولة»، «العقل»، «التاريخ».