خرافة الصراع الطائفي في سوريا

TT

رغم كل الأعراض الطائفية التي برزت في سياق انتفاضة الشعب السوري في سبيل حريته وكرامته وبناء نظام ديمقراطي بديل لنظام الاستبداد القائم، فإن الصراع الطائفي ليس خيارا واقعيا، وبالتالي فإن تقسيم سوريا إلى دويلات طائفية لن يحصل. يؤكد ما ذهبنا إليه مجريات الأحداث على الأرض، خصوصا مجريات الأحداث في منطقة الحفة وجوارها في ريف اللاذقية. الصراع الطائفي في سوريا لم يخرج عن نطاق الخطاب الإعلامي والسياسي النخبوي إلا بحدود ضيقة جدا، أما على الأرض فالمسألة مختلفة كثيرا. لقد استغل النظام واقعة كون أغلب المشاركين في الثورة هم من السنة لكي يؤسس لخطاب طائفي تجاه الأقليات يخوفها من البديل القادم، من أجل أن يكسبها إلى صفه، وقد حقق بعض النجاح في البداية، لكن مع استمرار النظام في خياره العسكري الأمني وعدم القبول الجدي بفتح أي خيار سياسي تفاوضي لإنهاء الأزمة، خصوصا بعد أن تسببت حربه المجنونة على شعبه في سقوط آلاف الشهداء من العسكريين وعناصر الأمن، وغالبيتهم من الطائفة العلوية، بدأ مزاج الطائفة العلوية يتغير بعض الشيء تجاه دعم النظام.

لقد صار نقد العلويين للنظام مسموعا في كل مكان في ريف اللاذقية، حيث انتشارهم الرئيسي، وذلك مع تزايد سقوط القتلى من أبنائهم في معارك ليست معاركهم، وقد برز تغير مزاجهم تجاه النظام بصورة واضحة من خلال الأحداث التي جرت في الحفة. فمن المعلوم أن مدينة الحفة تمثل جيبا تحيط به قرى علوية من جميع الجهات تقريبا، وقد خشي كثيرون من حدوث صراع طائفي فيها، يمكن أن يفجر مجمل الأوضاع في الساحل السوري، غير أن الوقائع على الأرض قد كذبت مقولة الصراع الطائفي في سوريا. لقد أسهم كثير من العلويين في تأمين خروج المدنيين من المدينة، واحتضنت أسر علوية عديدة في مدينة اللاذقية مئات الأسر التي فرت من منطقة الاشتباكات، واقتسمت معها كل شيء من لقمة الأكل إلى السكن إلى الحلم بإسقاط النظام.

وفي الجهة المقابلة، لم يعرف عن المسلحين الذين سيطروا على المدينة وهم في غالبيتهم العظمى من سكانها أن اعتدوا على أحد من العلويين، حتى من أنصار النظام والبعثيين المسلحين الذين كانوا في مقر الحزب أو في المؤسسات الحكومية. سمحوا للجميع بالخروج، وكان خطابهم لهم وكذلك لسكان القرى التي مروا بها عند دخولهم الحفة «إننا لسنا في صراع معكم، بل مع النظام الذي يستعبدنا نحن وإياكم».

ومن اللافت أن بعض مشايخ العلويين الذين كانوا يتخوفون من حصول اقتتال طائفي بين العلويين والسنة في المنطقة بدفع من بعض أتباع النظام قد أسهموا في منع ذلك من خلال جولات قاموا بها على القرى المجاورة لمدينة الحفة واجتمعوا خلالها مع أهلها ودعوهم لعدم الانجرار إلى أي صراع طائفي مع جيرانهم. ومن الحوادث التي تروى اليوم على كل لسان في المنطقة وخارجها، والتي تكثف في مغزاها القضية برمتها، أن المسلحين طلبوا من أحد أسراهم أن يتصل بوالدته ويخبرها بأنه أسر اثنين من الإرهابيين ويسألها النصح في ما يجب عمله بهما، فجواب الأم سوف ينفذونه عليه. فجاء جواب الأم قاطعا بأن عليه أن يتركهما، لأن لهما أهلا وأمهات، وقد يكون لديهما أبناء، فما كان من المسلحين إلا أن أخلوا سبيله طالبين منه أن يوصل سلامهم إليها. لقد شكل التضامن بين العلويين والسنة في منطقة الحفة درسا في الوطنية السورية سوف تذكره وتتعلم منه الأجيال القادمة.

هذه هي الوقائع على الأرض، رغم ما يعكرها بين الحين والآخر من الحوادث الفردية غير الواعية، لتجيء من ثم لقاءات المعارضة السورية في القاهرة والاتفاقات المهمة التي توصلت إليها اللجنة التحضيرية للمؤتمر المزمع عقده في القاهرة بتاريخ 2 و2012/7/3 لتدعم هذه الوقائع. لقد اتفق المجتمعون في القاهرة على أن الدولة التي ينشدونها سوف تكون دولة مدنية ديمقراطية، يتساوى فيها المواطنون أمام القانون بغض النظر عن الدين والمذهب والجنس والعرق. وأكثر من ذلك فقد تم النص على المساواة التامة بين الرجل والمرأة في كل شيء، وعلى حق المرأة في تبوؤ جميع المناصب في الدولة بما فيها منصب رئيس الجمهورية. لم يرد في الوثائق الثلاث التي سوف تقدم إلى مؤتمر المعارضة القادم ما يشير إلى أي اعتبارات طائفية أو مذهبية يمكن أن تلحظ سواء على مستوى بناء النظام السياسي أو على صعيد الدولة المنشودة.

إن الوقائع على الأرض، إضافة إلى ما اتفقت عليه المعارضة السورية بكل أطيافها في القاهرة، سوف تشكل إعاقة جدية لجميع المشاريع الخارجية التي تدعو إلى اعتماد النظام السياسي الطائفي وفق النموذج اللبناني أو العراقي أو البوسني، بذريعة حماية الأقليات والمساواة بينها.

باختصار، الصراع في سوريا ليس صراعا بين طوائف أو مذاهب أو مكونات عرقية، وإنما صراع سياسي ساخن بين النظام وأجهزته العسكرية والأمنية (وهي مكونة من جميع طوائف سوريا وإثنياتها)، وبين المسلحين الذين انشقوا عن قوات النظام، والمسلحين المحليين الذين أرغموا على حمل السلاح دفاعا عن أنفسهم وأهلهم، إلى جانب مجموعات مسلحة مختلفة لا تُعرف لها هوية محددة بدأت في الظهور والانتشار مؤخرا في جميع مناطق سوريا، وهي أيضا من جميع طوائف سوريا وإثنياتها.