الخليج: لماذا يتغير المثقف تجاه «الإخوان»؟

TT

ليس في جدل الثقافة حقائق بل مقاربات، وليس في مواقف السياسة ثوابت بل مصالح، وتدخل المعرفة والتاريخ كمكتسبات، والتحليل والتركيب كأدوات، والانحيازات الآيديولوجية كمؤثرات في تكوين الوعي وصناعة الرؤية تجاه الأحداث قديمها وحديثها.

يشكل المثقف (أيا كان التيار الذي ينتمي إليه أو الرؤية التي يختارها) موقفه من الأحداث بناء على مخزونه المعرفي والتاريخي وقدراته الذاتية، كما تدخل في ذلك أحلامه، بل وأوهامه حين لا يتحرز لفكره ورؤيته من تأثير عواطفه، أو يعجز عن التخلص من انتماءاته الضيقة.

حين بدأ ما يسمى بالربيع العربي، أخذ بعض المثقفين الأقل خبرة وتخصصا في جماعات الإسلام السياسي، وعلى رأسها الإخوان المسلمون، يطرحون أن خطر هذه الجماعات مجرد فزاعة كانت تضخمها الأنظمة، وقد ثبت أنهم مخطئون في ذلك؛ فها هي الجماعات الإسلامية تتسلم السلطة في تونس ومصر، وتنتظر في اليمن، وتنشر الفوضى في ليبيا.

عاد هؤلاء المثقفون للمجادلة بأن الشباب الثائر ومليونياته التي أسقطت أنظمة عتيدة ستصنع الفرق وستغير مسار التاريخ وستلغي كل القوى القديمة من حكم ومعارضة، وقد أخطأوا ثانية؛ فحين جاءت نتائج الصناديق تبين أن هذا الشباب بلا وزن ولا تأثير.

يتميز المثقف حين يكون قادرا على اكتناز مخزونه الثقافي في التعامل مع ضخامة المتغيرات، وأن يكون قادرا باستمرار على التطوير والتغيير ضمن الأطر التي ارتضاها والرؤية التي يمتلئ بها، مع قدرته على الموازنة بين التراكم والمراجعة، حتى لا يتغير بلا سبب.

انتشى الإسلاميون في الخليج بفوز الرئيس محمد مرسي أيما انتشاء، وهذا مفهوم؛ فراوبط الآيديولوجيا وأماني انتقال الحالة لبلدانهم تملأ عقولهم قبل عواطفهم، وانحاز بعض اليساريين لطبيعتهم الثائرة على كل شيء، وسخطهم المعهود، وبقيت شريحة من المثقفين والإعلاميين والمشاهير يتجهون شيئا فشيئا نحو الركوب على الموجة الحاضرة ومجاملة التوجه الشعبي.

بعض المثقفين ألقى تاريخه القديم وراء ظهره بحثا عن الشعبوية، وبعض الإعلاميين إما عاوده الشوق الإخواني القديم، أو أنه خضع لسلطة الجماهير وأسلم قياده لها، والمبررات حاضرة؛ فحجم الشعارات المرفوعة اليوم تمكن كثيرا منهم من الاختباء تحتها للتعبير عما يُنيل مزيدا من الشعبوية، أو يبحث عن مكان تحت شمس «الإخوان» الجديدة.

يجهل بعض هؤلاء التاريخ، ولا يعرفون أن «الإخوان» قد أكرمهم الملك عبد العزيز، وقدمهم، ووفر لهم الحماية، ثم لم يلبثوا أن انقلبوا عليه مع ثورة اليمن، وأن الملك سعود قد بذل جهده لحمايتهم زمن الناصرية، وزار مصر متوسطا لهم، وفيصل ودول الخليج فيما بعد فعلوا الأمر ذاته، ثم خانهم «الإخوان» بإنشائهم لتنظيماتهم السرية داخل هذه الدول، وأنهم انقلبوا على كل من تحالف معهم من المغرب إلى الجزائر إلى دول الخليج، وأنهم حين غزا صدام الكويت، وكان ينوي ضرب دول الخليج، انحازوا إليه ضدها، وفي صراع دول الاعتدال العربي مع دول الممانعة، انحاز «الإخوان» مع إيران ضد دول الخليج، وغيرها من حقائق التاريخ. حين تواجه هؤلاء بهذه الحقائق يكون ردهم إما أن التاريخ قديم وقيمته محدودة، وإما أن يتكئوا على أن المتغيرات أكبر من التاريخ في العالم، كما في المنطقة، كما في جماعة الإخوان، وأن الحاضر أهم من التاريخ. حسنا، ولكننا حين نجيء للحاضر، فإن «الإخوان» في مصر تحديدا لم يفوا أبدا بالتزام معلن خلال عام ونيف، من المشاركة في الثورة إلى الانتخابات البرلمانية إلى لجنة صياغة الدستور إلى انتخابات الرئاسة، والشواهد لم تزل تتكرر، وإذا كان التاريخ والحاضر يشهدان بوجوب الحذر من وعود «الإخوان» وطموحاتهم ولهاثهم خلف الهيمنة المطلقة وإمكانية انقلابهم في أي لحظة، فإن بعض مثقفي الخليج المنحازين لـ«الإخوان» بوعي أو من دونه يأرزون للواقع كملجأ أخير، ويطرحون أن فوز «الإخوان» برئاسة مصر يوجب تغيير كل شيء.

أفهم أن الدول ستتعامل مع فوز مرسي بقواعد السياسة والدبلوماسية، وهذا أمر طبيعي؛ فهذا شأن الدول، ولكن المثقف ليس كذلك، فهو حر في رأيه ورؤيته، ثم إن غالب الديمقراطيات العريقة يعبر المثقفون فيها عن توجهاتهم الفكرية والسياسية والاقتصادية التي يتبناها لاحقا هذا الحزب السياسي أو ذاك، ولكن أحدا لا يطلب منهم تغيير رؤاهم وقناعتهم لمجرد فوز الحزب المخالف لأفكارهم، بل إنهم يستمرون في تدعيم رؤيتهم ومناقشتها ومحاولة إثباتها وتعزيزها.

أمر آخر يحبذون طرحه، وهو أن صناديق الانتخاب التي جاءت بـ«الإخوان» قادرة على الذهاب بهم، ويتناسون أنه في كثير من الدول المعاصرة، فضلا عن التاريخ الحديث، فإن هذه الصناديق قد تجيء بمن لا يذهب، وروسيا المرجيحة بوتين - ميدفيديف خير مثال، هذا بالطبع مع عدم نسيان التفريق الضروري بين الديمقراطية كمفهوم وتطبيق.

عدم تجريب «الإخوان» سياسيا مغالطة كبرى يطرحونها، والصحيح أنه قد تم تجريب وصولهم للسلطة عبر طريقين: عبر صندوق الاقتراع وعبر الانقلاب العسكري؛ الأول في غزة، والثاني في السودان، في غزة لم يتوانوا حين آنسوا من أنفسهم قوة أن استحوذوا على السلطة بالقوة، ونسوا صندوق الاقتراع بكل سهولة، وفي السودان لم يزالوا منذ الانقلاب الذي تحول لانتخابات يسومون البلاد والعباد سوء العذاب، وقد ذهب ثلث السودان هباء تحت راياتهم، ومن المفارقات أن «الإخوان» الذين يمتطون الثورة في مصر هم نفسهم من يقمعونها في السودان.

لست أدري كيف تغير طرح بعض هؤلاء إلى النقيض من طروحاتهم السابقة تجاه الإخوان المسلمين والإسلام السياسي؟ هل في هذا الانتقال غير المبرر ما يدل على أن مواقفهم السابقة لم تكن مؤسسة على رؤية متكاملة بل كانت مجرد مجاملات للسلطة أو تجمل ثقافي؟

مغالطة أخرى يطرحونها وهي أن دول الخليج إن لم تسعف «إخوان مصر» بشيك على بياض، فإنهم قد يتجهون لإيران، وينسون أن دول الخليج خاضت صراعا طويلا مع الناصرية بمصر والنتيجة معلومة، مع استحضار ما يوجب زيادة الحذر الخليجي، ذلك أن التنظيمات السرية المؤيدة للناصرية بدأت بعد نجاح العسكر، أما «الإخوان» فتنظيماتهم السرية متفشية في الخليج منذ عقود.

ليس ثمة اختلاف في خطاب «الإخوان» وآيديولوجيتهم بين اليوم والأمس، فلم يزل ذلك الخطاب يجمع «معالم في الطريق» مع «دعاة لا قضاة» ولم يؤسسوا بعد لخطاب جديد يمكن من خلاله إعادة قراءة الموقف تجاههم، أما التطبيق، فيكفي فيه الشواهد أعلاه.