خيارات العيش والسعادة أنواع

TT

بعد أن اكتمل الامتداد الإخواني برئاسة مصر، كان لا بد لي أن أغطس في التأملات والتفلسف مما نفعله عند تلقي نبأ كئيب. جرني ذلك إلى التأمل في حياتي الخاصة. كنت الأول في المدرسة في العلوم والرياضيات، وتوقع أهلي أن أدخل كلية الطب أو الهندسة وأكسب الملايين وأعيش متنعما. عرضت علي دراسة القانون في الخارج ولكنني رفضتها وفضلت عليها الابتعاث لدراسة فن الرسم! أفضى بي ذلك إلى عيش من الضيق والكفاف كمعظم الفنانين، ولكنني عشت سعيدا أقضي وقتي في الاستماع للموسيقى والشعر ورسم الموديلات العاريات والتنقل بين المتاحف والمعارض ومن حب إلى حب، وتكريس فكري وقلمي لرسالة الإنسانية، إقامة العدالة والمساواة في المجتمع وتحرير الإنسان من جهله وظلمه وعبوديته.

لم أكن فريدا في ذلك. شاركني فيه عبر القرون ألوف وربما ملايين الفنانين والمفكرين والأدباء والشعراء وكل من حملوا رسالة المجتمع. عاشوا في فقر وجوع وتعرضوا للظلم والاضطهاد والسجن والتعذيب. يتطلعون دوما إلى مجتمع أرجواني جميل. كان هذا خيارهم الذي ارتضوه وعاشوا سعداء في ظله وفي أحلامه وآماله.

يمكننا النظر إلى شعوب الربيع العربي بأنهم يمثلون أمة من الفنانين. اتخذوا قرارهم في أن يعيشوا حياتهم في جوع وفقر وكبت ومرض راضين وسعداء بأحلامهم وآمالهم ومتعهم. يستمعون لأغاني أم كلثوم والمواويل والعتابات والتلاوات الدينية والمآتم الحسينية. يبكون آنا وينتشون بها آنا. يموتون بعمر قصير يتطلعون لعمر أبدي ينتظرهم. يموت أولادهم جوعا أو بالبلهارسيا والملاريا. يحملونهم لقبورهم واثقين بأنهم سيلتقونهم ثانية في عالم لا ملاريا ولا بلهارسيا فيه، وكل هذه القصور والسيارات الفارهة والمأكولات العجيبة متاع زائل يفوته المؤمن الذي ستنتظره المتع الباقية، يوم يلتقي بكل أحبائه ومن ماتوا بالسل والأنيميا أو قتلوا في الحروب والثورات والجهاد.

سعداء فيما اختاروه، وربما لم يبق بيدهم غير هذا الخيار، ولكل خياره. الأوروبيون يستمتعون بكرة القدم والجري في الأولمبياد، والعراقيون يستمتعون باللطم والجري لمآتم كربلاء. لم يعد الأوروبي يستمتع بهذا الإيمان الروحي الذي يمد الإنسان بالسعادة والرضى والأمل وتقبل القدر المكتوب، ففتش عن خيار آخر، راح يسعى لزخارف الدنيا، والمزيد من الترف والأنس والانتصار على المرض والفقر والحاجة، ولبلوغ ذلك، سخر فكره وذكاءه وطاقته. أمن لنفسه كل مصادر الترف وطول العمر وانتقل الآن للتفكير في جلب هذه المصادر من الأفلاك، ذهب من المريخ وفضة من زحل وياقوت من أورانوس، طاقة من الريح ومن الفضاء، ونفط من أعماق البحار. إذا انتهى استعمار القارات الخمس فسيسعى لاستعمار الكواكب التسعة. لم الانتظار لحوريات الآخرة وحولهم هذه الحوريات على البلاجات والمسابح؟

لكل رجال الربيع الإخواني يفضلون الاستمتاع بالأحلام، وما أحلاها عندما ترد في المنام وردية هانئة ما بقي الحلم حلما ولم تفِقك منه معدة خالية.