دفاعا عن فتاة خدعها واعظ القرية

TT

بالنسبة لأبناء المدن، الطريق الزراعي هو مجرد طريق يوصلهم من مكان إلى آخر، أما بالنسبة لأبناء الريف فهو يتعدى ذلك ليكون رمزا لأشياء كثيرة ربما تكون علاقات الحب هي أوضحها، إنه المكان المتاح للقاء الأحبة والمواعدة بين هؤلاء الرائحين في الصباح إلى حقولهم والعائدين منها عند الغروب. هناك أغان شعبية كثيرة تربط الطريق الزراعي بعلاقات الحب، ولعل أشهرها أغنية «على الزراعية يا رب أقابل حبيبي».. لم تكن الحبيبة الريفية تطلب أكثر من ذلك، أن تقابله فقط.

وتغير الزمن، ظهر في القرية من يمتلك سيارة ومنصبا رفيعا مؤثرا، هو واعظ القرية الشاب الوسيم الحاصل على الدكتوراه. وأبناء القرى في مصر وربما في العالم كله يشعرون بتقدير خاص لمن حصلوا على درجة علمية عالية، كما يحترمونهم إلى درجة التقديس عندما يتصادف أن يكونوا من رجال الدعوة الدينية. أما الفتيات في مقتبل العمر، فكل هذه الأحاسيس تتحول عندهن إلى رغبة محمومة للوصول إلى هذا الهدف والبقاء بالقرب منه، تماما كما يحدث للمعجبين والمعجبات المهووسين بالمطربين والمطربات، أن تفوز إحداهن بقدر من اهتمامه هو نصر عظيم. وللاقتراب من رجل الدين لا بد أن يكون لديها سؤال تبحث له عن إجابة. ولا خطر في ذلك أو مغامرة، فهي تصلي في نفس المسجد الذي هو إمامه وهي أيضا منتقبة، لا أحد سيعرفها (هذا ما تظنه) كما أن النقاب سيخفي عنه انفعالاتها التي تعتمل بالرغبة، هو سؤال بريء تسأله مؤمنة بريئة لا بد أن يرد عليه بسهولة نظرا لما حصّله من علم غزير. ولكن الأمر لا يسير على هذا النحو، في لحظة السؤال وبأقدم غرائز الإنسان وهي القنص، يستيقظ الذكر داخل رجل الدين ليمضي في طريقه طالبا منها لقاء خاصا بعيدا عن القرية وعن الناس بظنونهم السيئة.. «ولا انتي خايفة مني؟».

فيكون ردها بالطبع: أعوذ بالله.. أستغفر الله.. إزاي بس أخاف منك؟ فين وإمتى وإزاي؟

لقد حدثت الشرارة واكتملت الدائرة الكهربية، كان واضحا له ولها أن كليهما يرغب في الآخر. غير أنه من المؤكد أن أفكارهما ستفترقان عند مفارق طرق، الرجل عادة يفكر في الحصول على لحظات ممتعة، ولا يفكر في تحويل هذه اللحظات إلى زواج إلا في حالة واحدة هي أن يرغم على ذلك، أما الأنثى الشابة الريفية فهي تفكر في هذه اللحظات الممتعة المثيرة بوصفها محطة على طريق الزواج، علاقة الأنثى الريفية بأي شخص بشكل عام الهدف منها هو الزواج، وهو ما يدفعها لأن تكون أكثر ليونة معه وعذوبة، وهو أيضا على وعي بذلك، لذلك لا بأس من التصريح أو التلميح بأنه لا يطيق العيشة مع زوجتيه ويفكر في الزواج، وهي آمنة معه لا خوف عليها.. إذا لم تكن آمنة مع رجل دين محصّن بعضوية مجلس الشعب، فمع من ستكون آمنة أكثر.. الشيخ أوباما؟!

إن أهم عناصر هذه الحكاية هو أنه كان صديقا لرب الأسرة ويقوم بزيارتهم في البيت، وهو ما ينقلنا بسرعة إلى مسرحية موليير الشهيرة «تارتيف» عن ذلك الواعظ صديق الأسرة الذي دخل إلى البيت فأغوى الابنة وتحرش بالزوجة التي حاولت عبثا لفت نظر زوجها إلى حقيقة الرجل غير أنه كان نائما في عسل الإيمان ببركات الواعظ تارتيف، وانتهى الأمر بأن فقد بيته بعد أن حصل منه الواعظ بالخداع على تنازل عنه. قدم المسرح المصري هذه المسرحية في ثلاثينات القرن الماضي باسم (الشيخ متلوف) وظل هذا الاسم لسنوات طويلة أداة ممتازة لرسامي الكاريكاتير لأفكارهم التي يحذرون فيها الناس من الوقوع ضحايا لهذا النوع من البشر. لا جديد تحت الشمس، نعود لحكايتنا.

وعلى الطريق الزراعي الذي غنت له جدتها من أيام الفراعنة، وقفت امرأة على هيئة مساحة من السواد تنتظر الشاطر حسن قادما بسيارته (في مجلس الشعب يقدمون قروضا حسنة لأعضاء المجلس لشراء السيارة، ولكننا لا نستطيع الجزم بأن الشعب المصري ساهم بدفع نفقات هذا اللقاء) وتتوقف السيارة لتركب معه، وتتوقف السيارة بعد دقائق خارج القرية في مكان مظلم (من نصائح دون جوان، لا تستخدم مكانا مظلما واحدا مرتين) وبعد لحظات ظهرت جماعة من البشر وحاصرت السيارة واستدعت الشرطة وتفجر الموقف، الضابط يتصل بمدير الأمن الذي يتصل برؤسائه، وكان تقديرهم.. سيبهم.. مش عاوزين متاعب.

كان ذلك أمرا سهلا في العهد البائد، أما الآن فقد تدخل الشعب ومعه أمناء الشرطة وأصروا على اقتيادهما إلى الشرطة لعمل محضر لهما، قالت الفتاة إنها مخطوبة له وإنهما سيتزوجان، وأنكر ذلك هو قبل صياح الديك وقال إنها ابنة أخته، الفتاة التعسة ذكرت اسما ليس اسمها فوقعت في جريمة إضافية، أفرج عن الرجل وأرسلت النيابة إلى مجلس الشعب تطلب رفع الحصانة عنه، بينما ألقت القبض على الفتاة وقررت حبسها أربعة أيام ثم خمسة عشر يوما على ذمة التحقيق. حزب النور أرسل لجنة لسؤاله فأصر أمامها على أقواله من أنها ابنة أخته.. يا راجل.. بنت اختك وتسيبها تدخل السجن؟ مش توكل محامي للدفاع عنها.. المهم أن اللجنة المكونة من كبار رجال حزب النور أقوى الأحزاب الدينية، تردد بثقة أقواله في الفضائيات، بغير أن تسأل نفسها «هو الواحد هياخد بنت اخته في حتة ضلمة ليه؟».

لست أنظر لهذه القضية بالكيفية التي تنظر بها الشرطة والنيابة، أي باعتبارها جريمة ارتكاب فعل فاضح في الطريق العام، بل بوصفها عيّنة كاشفة لمنهج التفكير عند جماعة من المشتغلين بعلوم الدين والعمل السياسي. هذه جريمة خداع وإغواء أنثى استخدم فيها الجاني مكانته في القرية للتأثير عليها، وإعدام إرادتها. منذ سنوات سجن أحد الملاكمين من أبطال العالم في أميركا بعد أن اتهم بعمل علاقة مع فتاة تمت برضاها غير أن المحكمة اعتبرت (شهرته ونجوميته) عنصري قوة وإرغام وإعدام للإرادة.

أفرج عن الجاني ليس لأنه عضو مجلس الشعب فقط، بل لأنه رجل، وحبست الفتاة لأنها امرأة لا حول لها ولا قوة. حبست على ذمة التحقيق في القضية، إلى أن ينتهي خبير الأصوات من دراسة السي دي الذي سجله الناس الذين احتشدوا حول السيارة والذي قالت فيه بوضوح: إحنا مخطوبين وهنتجوز.

محامي الفتاة اتخذ أسوأ خطة للدفاع وهي الإنكار، ليست هي، وبالطبع ستستدعي النيابة شهود الواقعة ليؤكدوا أنها هي. وهنا يحق عليها العذاب والسجن بوصفها شريكة للفاعل الأصلي. وأنا أرى أنها معتدى عليها وضحية وأطلب من كل تنظيمات المرأة في مصر والعالم حمايتها والدفاع عنها. الفتاة مسجونة الآن أما الرجل فهو مطلق السراح بسبب الحصانة البرلمانية، النيابة العامة أرسلت تطلب من مجلس الشعب رفع الحصانة عنه، ولكن مجلس الشعب ليس له وجود بعد حكم المحكمة الدستورية، وعلى الفتاة أن تبقى في السجن إلى أن يتم تشكيل مجلس جديد لينظر في أمر رفع الحصانة، والفتاة في السجن، والواعظ يلقي بمواعظه، والنجار عاوز مسمار، والمسمار عند الحداد، والحداد عاوز قمحة، والقمحة عند الفلاح، والشعب عاوز رئيس والرئيس عند الإخوان والإخوان مش عارفين عاوزين إيه.