«سبع صنايع والبخت ضايع»

TT

لست من أنصار العنف واستعمال القوة لاسترداد الحقوق المسلوبة ما دام هنالك طرق أخرى حضارية تؤدي هذه المهمة «النبيلة»، ولكن ماذا يفعل المرء إن كان خصمه ركب دماغه ولا يعرف غير منطق القوة وفرض الأمر الواقع «القمعي» عليه ولا يعترف بالأساليب الديمقراطية كحل للمنازعات ولا يقيم للمحاكم والقوانين وزناً، في هذه الحالة ليس أمامه غير طريقين لا ثالث لهما للتعامل مع المشكلة؛ الطريق الأول، إما أن يرضخ ويستسلم و«ينخ» لقوانين عدوه ويرضى بما قسمه له صاغرا وإما أن يتكلم بنفس لغته التي لا يعرف سواها ويسلك طريق المواجهة المسلحة ويقاوم الشر بالشر، وفي هذه الحالة ستتحقق له إحدى «الحسنيين»؛ إما أن يسقط صريعا في أرض المعركة ويموت شهيدا مرفوع الرأس محمود الجانب، وإما أن يصل إلى هدفه ويحصل على حقوقه ويزيل في الأرض شرا ويعيد لها عدلا غائبا، وكان هذا قانونا وضعيا وإلهيا سائدا منذ الأزل، فمن يقوم بمواجهة العدو، لا ينال غير هاتين الجائزتين «إما الفوز بالشهادة أو النصرة ونيل الحقوق».

الوحيد الذي خالف هذه القاعدة «الذهبية» وخرج عن المألوف هم الأكراد، فهم معروفون بصمودهم وصلابتهم في الدفاع عن وجودهم وحقوقهم وتكبدوا في سبيل ذلك خسائر كبيرة لا تعد ولا تحصى ولكن دون أن يحصلوا على حقوقهم ويصلوا إلى أهدافهم النهائية، في كل الحروب والمعارك التي خاضوها عبر التاريخ لم ينالوا غير الخراب والقتل الجماعي والتشريد والتهجير، يعني أنهم لم يأخذوا من «الحسنيين» إلا الشهادة، و«الحسنى» الأخرى لم ينالوا شرف الوصول إليها أبدا.. قاوموا الحكومات العراقية المتعاقبة لسنوات طويلة ودفعوا ثمن مقاومتهم باهظا جدا من أرواحهم وممتلكاتهم، ولكن عندما جاءوا لقطف ثمار قتالهم المرير نتيجة اتفاقيتهم مع الحكومة العراقية في 11 مارس (آذار) من عام 1971 وبعد انتظار قتال لمدة أربع سنوات وجدوا أن الحكومة العراقية قلبت لهم ظهر المجن وضحكت على عقولهم.

كذلك الأمر بالنسبة للنظام الجديد الذي شكلوه مع الفرقاء السياسيين عام 2003؛ فلولا جهود قواتهم المسلحة «البيشمركة» في مساعدة القوات الأميركية والمحافظة على بغداد من الأعمال الإرهابية، لما أقيمت للعراق قائمة ولما تشكلت الحكومة وتأسس البرلمان ونظمت المؤسسات من جديد، ولكن ماذا حصلوا مقابل هذه التضحيات العظام، وكيف كافأتهم الحكومة العراقية؟ هل أجرت عليهم رواتب شهرية أسوة بالجيش العراقي؟ لا، لم تفعل ذلك، وهل أرجعت إلى الأكراد الذين سلبت أراضيهم في وضح النهار وأعطيت للوافدين من الجنوب ضمن عمليات تعريب منظمة من خلال تطبيق المادة 140 من الدستور التي تعالج هذا الأمر؟ لا لم تفعل ذلك، كل ما فعلت أنها أعطيت حصتها في توزيع الكعكة «رئاسة الجمهورية وبعض الوزارات الرمزية التي تفتقد إلى الصلاحية».

كان بإمكان القيادة السياسية الكردية أن تقوم فور سقوط الدولة العراقية بإزالة آثار التعريب وإعادة المرحلين المهجرين إلى ديارهم وإعطاء كل ذي حق حقه، لكنها لم تفعل ذلك وكان قرارا خاطئا، بل راحت تعزف على نغمة «الديمقراطية» و«الدستور» والاحتكام إلى المحاكم والقوانين «الاتحادية» ونسيت أو تناست أن الديمقراطية تجربة ومعايشة وتطبيق على أرض الواقع وأن الشعوب التي خضعت للقمع المتواصل وعاشت في ظل الديكتاتورية لعقود طويلة كالشعوب العراقية، لا يمكن أن تعرف معناها ولا أن تدرك أهميتها، فالديمقراطية ليست ثوبا تلبسه متى تريد، إنما هي وعي وإدراك حضاري يأتي من خلال عملية توعية معقدة داخل المجتمع، وأخطأت أيضا عندما ظنت أنها تستطيع أن تأخذ من العراقيين بالوسائل الديمقراطية ما عجزت عن أخذه بالطرق الأخرى، وظلت تعقد معهم الصفقات وتمضي الاتفاقات وتدخل في شراكات استراتيجية وتفعل كل ما من شأنه إرضاؤهم من أجل تطبيق المادة 140 ولكن دون فائدة، لم تحصل منهم إلا على رزمة من الاتفاقات المزورة والوعود الفارغة والشراكات الخادعة.. دون أن تصل معهم إلى نتيجة، غباء، وقانا الله منه.