فيما هي تنسى

TT

بداية إقامتنا في لندن التقيت في مطار هيثرو صديقا عربيا سألني وجهة السفر، فقلت إلى هلسنكي، على الخطوط البريطانية. قال: أنا لم أعد أستخدم هذه الشركة. لقد صدئت مثل كل شيء آخر في بريطانيا. وكان على حق. كل ما حولنا كان إضرابات وشللا وقمامة تملأ الطرقات. وكانت النقابات تمسك البلد من عنقه وتشد عليه. وكان هناك نقابي قميء المعالم، مؤنث الصوت، يرفع كل يوم مطلبا جديدا، وكل مطلب مرفق بشرط مسبق: عدم الالتزام بالإنتاج!

يومها ظهرت على هذه البلاد سيدة تدعى مارغريت ثاتشر، وأحيانا المسز تي. وهزت هذه الأمة من سباتها ورمت الرجل القميء عن برج بيغ بن، وقالت للناس، من لا ينتج لا يأكل. انتهت دولة الخمول. ويحزنني حقا الآن أن أرى أن معظم عمال لندن من مهاجري أوروبا الشرقية يدفعون ثمن السياسات الحمقاء والأحلام الاشتراكية الفارغة ويعملون جميعا عند البريطانيين الذين دفعتهم مارغريت ثاتشر إلى عصر الإنتاج والازدهار.

لم تحقق ثاتشر في عشر سنوات المدينة الفاضلة، لكنها حققت اليقظة العارمة. لم تعد تتوسل الانضمام إلى أوروبا التي منعها ديغول من دخولها، بل أبقت لنفسها استقلالية الإسترليني حيال اليورو المعتل. لم تنزع عن ملامحها روعة العراقة وعربة الملكة الأسطورية وقبعات سباق أسكوت، لكنها فاقت في الحداثة باريس وأحيانا نيويورك، وفي حين فقدت المسز تي ذاكرتها فإن كل زاوية من بريطانيا الحديثة تتذكر تلك السيدة الشجاعة التي جاءت إلى داونينغ ستريت من منزل بقال في فنشلي، الضاحية البسيطة، حارة البقالين.

التقيت في هيثرو قبل أيام الصديق العربي الذي صادفته قبل ثلاثين عاما. سألته إلى أين، قال إلى نيويورك «على البريتش»، مكتفيا بالاسم الأول للدلال والتحبب. قلت هل تسافر دائما على «البريتش»؟ قال وقد نسي تماما حديث الماضي: «لا أعتقد أن هناك خيارا أفضل في العالم».

يبدو هذا المقال وكأنه آت من قسم الإعلانات والعلاقات العامة. أو أن إدارة التحرير سوف تحيله على الإدارة العامة قبل نشره. والحقيقة أنني لا أعرف في «البريتش» سوى المسز تي، التي لم نعد نراها الآن إلا في السينما، أو في المكتبات، مثل الشخصيات التاريخية القديمة التي تظل الناس تحن إلى زمنها.

ثمة جيل كامل في بريطانيا لا يعرف شيئا عن البارونة ثاتشر التي تفيق في الليل لتقول لابنتها: «نادي لي على شقيقك»، غير متذكرة أنه في أفريقيا. لم تعد تعرف شيئا مما حولها. لم تعد تذكر صوتها الجارح، وهي تقول لسكارغيل، اذهب أنت وخمولك إلى الجحيم. نحن نريد بلدا يعمل ويزدهر.