الجرائم الإلكترونية تكلف الشركات المليارات كل عام

TT

رغم أن أزمة اليورو تمثل تحديا في غاية الضخامة، فهي ليست أكبر مشكلة تواجه العمل التجاري في شتى بقاع العالم، بل هناك الجرائم الإلكترونية، التي تفوق في حجمها نشاط تهريب المخدرات. ويقدر «مكتب التحقيقات الفيدرالي» (إف بي آي)، في دراسة أجرتها مؤخرا شركة «مكافي»، أن إجمالي التكلفة السنوية لهذه الجرائم يتجاوز 400 مليار دولار.

وما من شك في أن أزمة اليورو تعد انتكاسة كبرى بالنسبة لنا جميعا، إلا أنها ستجد لها حلا في النهاية، ولكن هناك شر محدق وخطر داهم يواجهنا ليس بمثل هذه السهولة في التعامل معه، فكل جانب تقريبا من كل ما نفعله في حياتنا يتمحور حول شبكاتنا السلكية واللاسلكية.

وبالتالي فإن المشكلة الأخطر بكثير، وهي مشكلة مستمرة وأكثر تعقيدا إلى حد بعيد، هي مشكلة الجريمة الإلكترونية، التي تؤثر على حكوماتنا ومواطنينا ومعظم شركاتنا. وتعد الجريمة الإلكترونية حالة عالمية حقا، وهي كذلك مصدر قلق عابر للحدود والقوميات ولا يخلو منه مكان. والسؤال هو: هل نحن جاهزون للتعاون معا من أجل الدفاع عن مصالحنا؟

إن الجريمة ظاهرة اجتماعية واقتصادية، وهي قديمة قدم المجتمع الإنساني ذاته. وكما أن الحياة تقوم على مزيج من الخير والشر، فكذلك الإنترنت؛ فرغم كل ما حمله لنا ذلك الفضاء الإلكتروني من خير، فإن له جوانبه المظلمة كذلك، إذ لا ينكر أحد أن الإنترنت معرض للاستغلال. والجرائم الإلكترونية هي جرائم تتم عن طريق استخدام أجهزة الكومبيوتر والإنترنت، فإلى جانب المنافع الهائلة التي تقدمها لنا التكنولوجيا، فقد أدت كذلك إلى أن أصبحت الجرائم القديمة ترتكب بطرق جديدة وأكثر براعة. وتعد الجريمة الإلكترونية هي المشكلة الأحدث بل وربما الأكثر تعقيدا في عالم الإلكترونيات.

وفي بريطانيا، تم هذا الأسبوع إلقاء الضوء على الجرائم الإلكترونية في أول خطاب عام يلقيه جوناثان إيفانز، رئيس جهاز الاستخبارات الداخلية البريطاني «إم آي 5»، منذ عامين، حيث ذكر أن الجهاز يعمل على التصدي لمستويات مذهلة من الهجمات الإلكترونية التي يتعرض لها النشاط التجاري البريطاني.

وقد كنت هناك، أستمع إلى خطابه الذي ألقاه في مقر عمدة لندن، وتحدث فيه إيفانز عن الجهود التي يبذلها جهاز «إم آي 5» لمواجهة «العمليات واسعة النطاق التي تتضمن عدة آلاف من البشر الذين يقفون وراء عمليات التجسس الإلكتروني لصالح الدول وكذلك الجريمة الإلكترونية المنظمة». وأضاف: «يتم بصورة كبيرة استغلال نقاط الضعف في الإنترنت، ليس عن طريق المجرمين فحسب، بل عن طريق الدول أيضا. إن حجم ما يجري مذهل». وذكر كذلك أن هذه الهجمات تمثل تهديدا لسلامة المعلومات.

وحذر إيفانز كذلك من أن دورة الألعاب الأوليمبية «لندن 2012» هي «هدف جذاب» بالنسبة للجماعات الإرهابية، لكنه أشار إلى أن الاستعدادات الأمنية تسير على ما يرام، ولهذا لن تكون الدورة الأوليمبية هدفا سهلا، وإن كان لا يوجد شك في أن بعض التنظيمات الإرهابية قد فكرت في تنفيذ هجوم.

وهذه المشكلة هي مشكلة عالمية، ففي الولايات المتحدة، يعتبر «مكتب التحقيقات الفيدرالي» أعلى جهة حكومية تتولى التحقيق في الجرائم التكنولوجية، ومن بينها العمليات الإرهابية التي تعتمد على الوسائل الإلكترونية، واختراق أجهزة الكومبيوتر، والاستغلال الجنسي عبر الإنترنت، وعمليات النصب الإلكتروني الكبرى. وذكر متحدث باسم المكتب: «كي نقف في مواجهة هذه الاتجاهات الجديدة، نقوم بتجميع وتبادل المعلومات والاتصالات الاستخباراتية مع شركائنا من القطاعين العام والخاص في جميع أنحاء العالم».

وقد جاءت المملكة العربية السعودية في المركز الأول والإمارات العربية المتحدة في المركز الثاني كأكثر بلدان الخليج عرضة للجرائم الإلكترونية، مثل القرصنة على المواقع، طبقا لتقرير إحصائي نشرته مؤخرا شركة «تريند ميكرو». وهناك ضوابط تنظيمية للتصدي للجرائم الإلكترونية في مختلف البلدان، إلا أن مقاضاة قراصنة الكومبيوتر من قبل السلطات المحلية مستحيلة تقريبا، بحسب ما جاء في التقرير، لأن معظم الهجمات تأتي من بلدان تقع خارج المنطقة أو الإقليم. وبالتالي، فإن البلدان في حاجة إلى التعاون بشكل وثيق للغاية من أجل القضاء على هذا الوحش المتربص بها.

وتصل التكلفة الإجمالية التي يتحملها الاقتصاد البريطاني بسبب الجرائم الإلكترونية إلى 27 مليار جنيه استرليني سنويا، طبقا لأول تقرير مشترك ما بين الحكومة وشركة متخصصة حول مدى وتكلفة الجرائم الإلكترونية في بريطانيا، حيث صدر هذا التقرير عن «مكتب الأمن الإلكتروني وسلامة المعلومات» التابع للحكومة البريطانية وشركة «ديتيكا» المتخصصة في مجال الاستخبارات المعلوماتية.

وتعد هذه الأرقام، التي تنشر لأول مرة، تقديرات في المتوسط، وربما تكون التكلفة الحقيقية أعلى من ذلك بكثير. وتنقسم هذه التكلفة إلى 21 مليار جنيه استرليني للشركات، و2,2 مليار دولار للحكومة، و3,1 مليار جنيه استرليني للمواطنين. وتشمل نسبة 8 في المائة التي تتحملها الحكومة النصب في الضرائب والإعانات المالية، أما نسبة 12 في المائة التي يتحملها المواطنون العاديون فتتركز في الأساس حول سرقة الهويات وعمليات الغش على الإنترنت، في حين تعاني الشركات البريطانية من مستويات أعلى من سرقة الهويات والتجسس التجاري.

ولنضع هذا الأمر في سياقه: إن هذا يعني أن 80 في المائة من جميع الجرائم الإلكترونية توجه ضد الشركات، وهو نبأ غير سار. وترتبط الحصة الأكبر وهي 44 في المائة بسرقة الهويات، يليها بفارق ضئيل التجسس التجاري بنسبة 36 في المائة، ثم الابتزاز بنسبة 10 في المائة.

وقد صرحت وزيرة الدولة البريطانية لشؤون الأمن، البارونة نيفل جونز، التي سبق لها أن شغلت منصب رئيسة «لجنة الاستخبارات البريطانية المشتركة»، أن الحكومة عازمة على التعاون مع الشركات المتخصصة في مواجهة الجريمة الإلكترونية. وذكرت في حديث قصير لها في وسط لندن أن مرتكبي الجرائم الإلكترونية حاليا «لا يشعرون بالخوف لأنهم يظنون أنه لن يتم الإيقاع بهم».

ونظرا لأن المجتمع أصبح يعتمد اعتمادا شبه كامل على الفضاء الإلكتروني، فإن وضع استراتيجيات فعالة لمواجهة الجريمة الإلكترونية يستلزم فهما أكبر لمدى تأثيرها، فمن المعروف للأسف أن هناك صعوبة في استيعاب مداها وحجمها، وأن المحاولات السابقة لرسم سياسة أو وضع استراتيجيات للتعامل مع الجرائم الإلكترونية قد باءت بالفشل، نتيجة للافتقار الحقيقي إلى التبصر العميق داخل المشكلة.

ولا يوجد في حياتنا سوى أقل القليل مما لم يتأثر بالثورة الرقمية، وهناك حاليا نحو مليوني مستخدم للإنترنت في العالم وأكثر من 5 مليارات مشترك في خدمات الهاتف المحمول، كما يتم يوميا إرسال 294 مليار رسالة بالبريد الإلكتروني و5 مليارات رسالة قصيرة عبر الهاتف الجوال. ومنذ عامين، كان ما يزيد على 91 في المائة من الشركات البريطانية و73 في المائة من الأسر البريطانية لديها اتصال بالإنترنت، وبلغ ما يتم إنفاقه عبر الإنترنت 47,2 مليار جنيه استرليني في بريطانيا وحدها. ويتزايد هذا الرقم عاما بعد عام، حيث أصبح مجتمعنا يعتمد كليا تقريبا على توافر تقنية المعلومات والاتصالات به على نحو مستمر وبمنتهى الدقة والسرية، فنحن نحتاج إليها في إدارة شؤوننا الاقتصادية والجهاز الحكومي المحلي والدفاع الوطني ووجودنا الاجتماعي والثقافي اليومي بأسره.

وقد تساءلت في موضع سابق من هذه المقالة عما إذا كنا جاهزين للتعاون معا من أجل الدفاع عن مصالحنا. ويعمل «الاتحاد الدولي لحماية الأمن الإلكتروني»، الذي انطلق في لندن في شهر يوليو (تموز) عام 2011، على توحيد الحكومات والشركات الدولية وهيئات تفعيل القوانين، مثل منظمة «يوروبول»، في محاولة للتصدي للجرائم الإلكترونية. وعقب انطلاق هذا الاتحاد، رحب به رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، موضحا أنه إلى جانب تكوين علاقات بين الشركات والحكومات ومسؤولي إنفاذ القوانين في جميع أنحاء العالم، فإن هذه المنظمة الجديدة غير الهادفة للربح، التي يرأسها وزير الداخلية البريطاني السابق ديفيد بلانكيت، سوف تقوم كذلك بالاستثمار في التدريب، إضافة إلى تبادل الخبرات فيما بين الدول.

ويهدف «الاتحاد الدولي لحماية الأمن الإلكتروني» إلى تحسين إمكانات وقدرات إنفاذ القوانين لدى الدول، من أجل المساعدة على حماية الشركات وعملائها من هذا التهديد غير المسبوق. وتتبلور مهمة الاتحاد، عند مواجهة جرائم الإنترنت، حول تعزيز الأمن والسلامة على الإنترنت في أوساط المال والأعمال، عن طريق المساعدة على نقل الموارد والخبرات من القطاع الخاص إلى كل من هيئات تفعيل القوانين المحلية والدولية، من أجل دعمها في مهمتها الرامية إلى الحد من الأضرار الناجمة عن الجريمة الإلكترونية.

وتعتبر هذه معضلة كبيرة وعقبة لا يمكن التغلب عليها إلا من خلال إرادة وعزم دوليين غير مسبوقين والتعاون بين جميع الدول المحترمة، حكومات وشركات وشعوبا، من أجل الصالح الأعم لها جميعا. فالجريمة الإلكترونية وباء عالمي نحتاج كي نتصدى له إلى إقامة شراكة قوية بين البلدان والقطاعين العام والخاص.

* أستاذ زائر في «كلية إدارة الأعمال» بجامعة «لندن متروبوليتان» ورئيس مجلس إدارة شركة «ألترا كابيتال».