المنامة كعاصمة للثقافة العربية 2012

TT

يعجبني هذا التقليد المتبع في العالم العربي منذ عام 1996 وحتى اليوم، أدامه الله! ففي كل عام تنتقل الثقافة العربية من عاصمة إلى أخرى. في كل عام نحتفل بثقافتنا ولغتنا وهمومنا في إحدى عواصمنا الجميلة الإحدى والعشرين. ميزة هذا العام هي أن الاحتفال يتم في مملكة البحرين وفي البلد العربي الوحيد الذي تقف على رأس وزارته الثقافية امرأة لا رجل. وهذا بحد ذاته علامة حضارية. عندما جاءت الشيخة مي آل خليفة إلى الرباط لكي تشرح لنا المشروع فهمنا سبب تألق البحرين والسمعة الطيبة التي يحظى بها هذا البلد في الخارج، وفي العالم العربي على وجه الخصوص. كانت القاعة مليئة بالمثقفين والمثقفات المغربيات. وكان من بين الحضور الوزير السابق محمد بن عيسى الذي فعل لبلاده ما فعلته مي آل خليفة لبلادها. فقد جعل من المغرب أيضا مركزا مشعا للثقافة العربية من خلال مهرجان أصيلة السنوي الشهير. من يتذكر أصيلة، تلك المدينة العاشقة المستلقية على شاطئ البحر بكل غنج ودلال؟

كان عرض معالي الوزيرة للمشاريع الثقافية التي ستتوالى في المنامة على مدار العام منهجيا، واضحا، كالعادة. كان مفعما بالرغبة في العطاء ورفع راية البحرين عاليا. وكان تجاوب الجمهور معها قويا متفاعلا من خلال الأسئلة التي طرحت عليها بكل صراحة، ثم من خلال المداخلات الكثيرة الأخرى التي لم تتخذ صيغة السؤال بالضرورة. كان منظرا جميلا فعلا: بلد يقع في أقصى المشرق العربي وبلد يقع في أقصى المغرب العربي يتحاوران من خلال لغة واحدة وعواطف مشتركة وخصوصيات مختلفة! ماذا تريدون أفضل من ذلك؟

جمال العالم العربي ناتج عن تنوعه أيضا وليس فقط عن وحدته اللغوية والثقافية والدينية. إنها الوحدة من خلال التنوع، والتنوع من خلال الوحدة. هنا تكمن عبقرية المكان والزمان في هذا العالم العربي المترامي الأطراف من المحيط إلى الخليج. إنه عالمنا العربي الذي يكاد يفقد توازنه أو بوصلة اتجاهه في وقت الأعاصير والزلازل! ولكن المستقبل له على الرغم من كل شيء. وسوف يصل إلى بر الأمان إن شاء الله بفضل تركيزه على الفعل الثقافي لا السياسي فقط. السياسة تفرقنا والثقافة تجمعنا.. أكاد أقول إن السياسة فشلت ولم يبق أمامنا إلا الثقافة. ينبغي العلم بأن العمل الثقافي أصبح يلعب دورا أساسيا في تطور المجتمعات والشعوب ليس فقط عندنا، وإنما عند الآخرين أيضا. من لا ثقافة له لا حضارة له حتى ولو كان أغنى بلد في العالم. فرنسا ركزت على إشعاعها الثقافي منذ زمن طويل ولا تزال. جاذبيتها لا تضاهى منذ أيام أندريه مالرو، أشهر وزير للثقافة في عهد ديغول. فهو الذي فتح المراكز الثقافية والمكتبات العامة المجانية في كل أنحاء فرنسا. المواطن لا يشتري الكتب وإنما يستعيرها. متى سيفهم العرب أن الرأسمال الثقافي أهم من الرأسمال المادي؟

العالم العربي بحاجة إلى الفلسفة والفكر النقدي الحر. إنه بحاجة إلى التنفس. إنه بحاجة إلى أجيال تفكر بذاتها، وليس بحاجة إلى الآيديولوجيات المتعصبة والتلقين الببغاوي وإلغاء العقل. وحدة العالم العربي تتجلى من خلال كل النشاطات الثقافية التي ستتخلل هذا العام من أوله إلى آخره في عاصمة البحرين. وحدته تتجلى من خلال التقاء المثقفين العرب على أرض البحرين العريقة وفي قاعة واحدة لكي يتدارسوا شؤون هذه الأمة وشجونها.. نعم إن الثقافة - واللغة بطبيعة الحال - تلعب دورا كبيرا في التقريب بين مختلف شعوب الأمة العربية وأقاليمها. ما معنى العرب والعروبة بدون هذه اللغة العربية التي هي أغلى علينا من بؤبؤ العينين؟

عندما سمعت بأنهم سيخصصون شهر يوليو (تموز) المقبل للفكر، وشهر أغسطس (آب) الذي سيليه للترجمة، أعجبتني الفكرة واعتبرت الاختيار موفقا. فالواقع أن الفكر يكمل الترجمة والترجمة تكمل الفكر. بمعنى من المعاني يمكن القول إننا جميعا مترجمون حتى ونحن نؤلف مباشرة. كم من التأليف هو ترجمة مقنعة! وأبتدئ بنفسي ولا أخجل من ذلك. بل ليتنا نحسن الترجمة ونعرف كيف ننقل أمهات النظريات الفلسفية وكبريات الفتوحات المعرفية إلى لغتنا العربية. كم ستغتني لغة الضاد عندئذ بالأفكار الجديدة والمصطلحات العتيدة التي هي بأمس الحاجة إليها! إنها فرصة مناسبة لكي أصفي حساباتي مع نفسي وأنخرط في كتابة مداخلتين مطولتين: الأولى عن تأثير الأنوار الفرنسية على ثقافتي وتكويني، والثانية بعنوان: «لماذا ترجمت محمد أركون؟»، لن أقول أكثر من ذلك الآن حول هذين الموضوعين اللذين يقعان في صميم اهتماماتي منذ ربع قرن على الأقل. إنها وقفة مع الذات، أو إلقاء نظرة استرجاعية على الماضي بعد كل تلك السنوات. ومرت الأيام...

أحيانا تذكرني الشيخة مي آل خليفة برائد التنوير العربي الدكتور طه حسين. فعندما كان وزيرا للمعارف عام 1950 أطلق صرخته الشهيرة: التعليم حق طبيعي لكل المصريين كالماء والهواء. ووزيرة الثقافة البحرينية تريد أن تفعل الشيء نفسه بالنسبة لشعبها. فمن خلال برامج القراءة والمطالعة وفتح المكتبات والمراكز الثقافية وبقية النشاطات الأخرى تريد الوزيرة تثقيف الشعب وتنويره والارتقاء به. كلما تقدمت أنوار العلم تراجعت ظلمات الجهل. كان فيكتور هيغو يقول: كلما فتحتم مدرسة أغلقتم سجنا! فالانحراف والتعصب ينتهيان أو قل يتراجعان كثيرا بانتشار أنوار المعرفة. هذا هو المشروع التنويري الذي وصل بفرنسا وإنجلترا وألمانيا وبقية الأمم الأوروبية إلى ذروة التقدم الحضاري. ولكن طه حسين، ككل الرواد الحقيقيين، أثار زوبعة من الانتقادات ضده بسبب مواقفه الجريئة أكثر من اللزوم أو ربما السابقة لأوانها. ألم يقل جان كوكتو عنه هذه العبارة الرائعة: مشكلة طه حسين هي أنه يرى إلى أبعد مما تستطيع مصر أن تتحمله؟! ومشكلة الشيخة مي، هل تختلف عن ذلك كثيرا يا ترى؟ ينبغي العلم بأن الأشخاص المحافظين فكريا والمحدودين عقليا لم يدركوا مقصده العميق، هو الذي قال فيه نزار قباني:

ارم نظارتيك ما أنت أعمى

إنما نحن جوقة العميان!

ولم يفهموا حجم الرغبة العارمة التي كانت تسكنه وتدفعه لانتشال الشعب المصري من ظلمات الجهل. كان يريد أن يرتفع بمصر إلى مستوى الأمم المتحضرة بكل بساطة. ولكنه كان مستعجلا يريد حرق المراحل ككل الرواد الكبار الغيورين على أمتهم. فكان أن عاكسوه وأتعبوه وشوهوا سمعته، بل اتهموه في دينه ومعتقده. بالمناسبة الشيء نفسه فعله الأصوليون الفرنسيون مع جول فيري رائد التعليم الحديث في فرنسا. ويقال إنه اختنق من كثرة ما لاحقوه وهاجموه ونغصوا عيشه. نقول ذلك على الرغم من أنه هو الذي نهض بفرنسا وقضى على الأمية فيها. ولكن يبدو أن هذا هو قدر كل الرواد الذين يبنون الحضارات: إنهم يحترقون لكي يضيئوا للآخرين الطريق.