الأسير اللبناني!

TT

يعتقد بعض الساسة اللبنانيين أن بلادهم هي مركز الكون، وبذلك يقيمون الضجة تلو الأخرى من أجل تفريغ هذا المركز من حيويته بإشعال الحرائق السياسية التي لا ينكوي بنارها قبل أي أحد آخر إلا المواطنون البسطاء ومن ضاق بهم العيش كما يضيق الطوق على الرقبة. لا يعرف بعض الساسة أن جل ما يفعلونه في بلادهم هو إضافة الحطب إلى النار، وليس العمل على إطفائها.

اليوم يبدأ حريق جديد في لبنان عنوانه أحمد الأسير، الذي تبدو لحيته أطول بسنتيمترات من لحية السيد حسن، ويتحول إلى أيقونة سنية تجذب الأنظار. هل هذه الظاهرة غير متوقعة؟ يتجنب البعض القراءة العميقة في الشأن اللبناني. كاتب هذه السطور - ومنذ فترة - تصور أن معادلة إقصاء الاعتدال السني المتمثل في تيار الحريري، سوف يقابله - بسبب التطرف السياسي الشيعي القابض على السلاح ومستخدمه بطريق ناعم أو وعر - تطرف سني لم يكن موجودا ولا مرغوبا في السابق.

الساحة اللبنانية وتحت شعارات مختلفة أصبحت اليوم أمام جماعة تملك السلاح خارج منظومة الدولة وتؤثر في الدولة وخارجها من أجل تمرير أجندتها السياسية. هذا التطرف لا يخرج منه - بسبب السلاح - أي خارجي مخالف له ولو بالرأي، بل قسمت الطائفة إلى أكثرية ضاربة لديها سلاح وأقلية مسايرة اسمها حركة أمل، والقاعدة أن من يملك سلاحا في أي معادلة وطنية تميل نقط التوازن إلى ما يشتهي ويقرر.

أما في الطرف الآخر، فهناك الحريرية السياسية، وهناك الميقاتية والكرامية والمفتية، وغيرها من العناوين السياسية السنية، وهي لا تملك سوى الأقوال السياسية والنيات الطيبة، وقد تم تهميشها من الداخل والخارج، بل وإقصاؤها بسبب الاستقواء بالسلاح. بقية الطوائف الأخرى تنتظم في تيارات متحالفة ومتعاونة ومرصوصة بالمصالح أو بالتخويف.

كان من الطبيعي - والأمر كذلك - أن تفرز في الطائفة السنية ظاهرة اسمها الأسيرية التي يقودها أحمد الأسير، فالتطرف يؤدي إلى التطرف المضاد في التوجه. ليس هناك من عاقل يريد أن يرى لبنان بين تطرفين، ولا فائدة من جر الرجل والتهديد في تأخير وضع حد لوجود السلاح لدى طائفة بعينها، خاصة أنه قد ثبت في أكثر من مكان، أن استخدام السلاح والتهديد به قد استخدم في أكثر من مرة، وشرع في وجه المواطن المذعور. يعشق اللبنانيون تسمية شرع السلاح بأيام الشهور المختلفة التي ظهر فيها، وغير اللبناني المسيس يتوه في متابعة تلك الأحداث ومواقع الأيام اللبنانية، حتى عن لي أن أنصح أحد الإخوة اللبنانيين بأن ينجز قاموسا في الأيام اللبنانية كي يستطيع من يريد العودة إليها ضبطها، فهناك «14 آذار»، و«8 آذار» في تقسيم التكتلات التي أصبحت مشهورة، وهناك «7 أيار» يوم احتلال بيروت من حزب الله ومناصريه، وهناك «25 كانون الثاني»، يوم القمصان السود الذي أرهب وليد جنبلاط للتحول من أكثرية الحريري إلى أكثرية ميقاتي، وهكذا هي الأيام تتوالى على مركز الكون الذي سوف يحارب بعضه الدول العظمى، وربما أيضا ينتصر عليها.

الوضع اللبناني تابع للأحداث لا مسير أو راسم لها، فقد كان ساحة للعمل الفلسطيني، ولما صار على ذلك العمل أن يترك لبنان، دخلت البلاد في دوامة من رهيب الدم وشقاق الإخوة التي سميت الحرب الأهلية، ما زالت بعض آثارها مشاهدة على البناء المادي، وعميقة في النفس اللبنانية. ثم جاءت 2006 بحرب مدمرة، قال عنها السيد حسن بوضوح تام في لقاء تلفزيوني ما معناه، لو كنت أعرف ما سوف تتركه الحرب لما دخلتها - أو قريبا من هذا المعنى - ثم انقلب التفسير إلى أنها حرب انتصار، ثم تحول إلى تخوين العضيد الذي وقف يحارب على الجبهة الدبلوماسية، ثم حصار رئيس الوزراء في معقله، مبنى الحكم!

إذا كان الافتراض صحيحا أن ما يحدث في لبنان هو تابع لأحداث أخرى، فإن ما يجري في سوريا لا بد أن يترك الكثير من تأثيراته على لبنان، وهنا فإن العقل والمنطق يحبذان أن تقتلع الأطراف اللبنانية شوكها بأيديها، قبل الدخول في كارثة أعمق وأعظم وأكثر إيلاما لكل اللبنانيين على اختلاف طوائفهم، سواء كانوا يستعدون لصلاة الجمعة أو قداس الأحد، أو يعتبرون اليومين إجازة فقط!

كما قال الرؤساء السابقون حسني مبارك ومعمر القذافي وعلي عبد الله صالح، ومنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، إنهم «غير»، يستخدم الرئيس بشار الأسد نفس التعبير، إنه غير، ويساعده في ذلك تصور في بيروت، ربما تفرضه المصالح والرغبات قبل الحقائق، إنه بالفعل (غير)، ذلك ليس من المنطق العقلاني، لذلك فإن حزب الله وهو الأكثر تأثيرا وفاعلية اليوم في لبنان يحتاج إلى ما يسميه الاستراتيجيون الخطة (ب) أو الطريق الآمن للخروج من المأزق! الأسير في لبنان ليس هو أحمد الأسير، على ما يمكن أن تتطور شعاراته وعلى ما يجلب هو أو من يسير في تياره من أنصار من توتر، الأسير هنا هو حزب الله الذي لا يرغب أن يفكر في الخطة (ب) خارج منظومة التفكير في الحشد والتحدي، الذي قال عنه محمد رعد، ممثله في لجنة الحوار الوطني اللبناني منذ أسابيع تهديدا، إن ما عرف من أهوال الحرب الأهلية السابقة كان (نزهة) إذا ما قورنت بالقادم من أفعال! هذا يعني أن لا وجود لخطة بديلة غير المعروفة والمعلن عنها، وهي رفع السلاح، وهي خطة تكلفتها اليوم خراب لبنان، أما إن أريد التوافق فستكون التكلفة الآن أقل بكثير من تكلفتها في الغد.

قاعدة التفكير قائمة على أن خطط الأمس لا تصلح للغد، إن العالم ببساطة في تغير مستمر، وقد تغير جذريا، حيث أصبحت مقولات الأمس موروثا مضى زمانه، فلا شك أن أهل السلاح شاهدوا ما حدث في ميدان التحرير يوم الجمعة الماضي، من عناق بين الغنوشي ومرسي، كما سمعوا رأي الرئيس المصري الجديد فيما يحدث في سوريا، كما أنهم مطلعون على كواليس اللقاء الدولي في جنيف نهاية الأسبوع الماضي، وأيضا يروا بأم أعينهم أن دمشق تقدم تنازلات يسبقها الزمن وتلهث للحفاظ على بعض ماء الوجه ولكنه يراق أمام أبواب الكرملين ويسفح أمام نهر الدم المتدفق. إنها تغيرات عميقة تجعل من الأسير مجرد ظاهرة صغيرة في كون متغير لن يكون هو كما كان في العشرية السابقة. ترى هل من يستطيع فك أسر الأسير، وهو المواطن اللبناني، كي يتواضع ويعرف أنه ليس مركز الكون، فالمركز في مكان آخر؟!

آخر الكلام:

تسليم تونس رئيس وزراء ليبيا السابق أحضر الخلاف الذي توقعنا أن يقع بين الترويكا التونسية الجديدة إلى السطح، وقد نسى كثيرون في النظام التونسي الجديد أنهم كانوا أيضا لاجئين، ولو سلموا إلى نظام بن علي لما وصولوا إلى الحكم، الصراع في تونس على شكل الدولة بدأ، ولكنه لم يكن مفاجئا.