المضمدون

TT

عمل أشهر روائيي أميركا، إرنست همنغواي، سائق سيارة إسعاف في الحرب العالمية، ومن هذه التجربة اتخذ الكثير من رواياته. لقد دله عمله الصحافي على أن كنوز الأحداث موجودة دائما بين مآسي الناس. هنا، في سيارة على الطريق ما بين الموت والحياة، يكون الرجال في أقصى حالات الضعف وأكثر لحظات الحقيقة صدقا وتعرية. في هذه السيارة، أو على سرير المستشفى، يكون الضابط حامل الأوسمة والنجوم، متأملا في مساعدة من مسعف بسيط.

هل اختار همنغواي التجربة من سيرة أهم شاعر أميركي، والت ويتمان، الذي كان صحافيا هو الآخر؟ خطر لي ذلك وأنا أقرأ سيرة ويتمان للمرة الأولى. طالما قرأت شعره وأحببته. وكنت دائما أعتقد أن نتاج الشاعر والأديب هو الأهم. فالسيرة تكون أحيانا رديئة وسيئة، فيما يكون النتاج الأدبي أو الموسيقي أو الشعري، رائعا وجميلا، كمثال موزارت بين الموسيقيين، أو توماس مان بين الأدباء، أو اللورد بايرون بين الشعراء. لكنني اكتشفت في حياة ويتمان حياة لا تقل جمالا عن شعره.

شتاء 1862، في عز الحرب الأهلية الأميركية، سافر ويتمان إلى ولاية فيرجينيا بحثا عن شقيقه الجندي، الذي بلغه أنه أصيب. عندما وصل إلى الجبهة كانت هادئة في هدنة مؤقتة، حيث رأى أسماء الضحايا «مكتوبة على عجل على لوحات خشبية غرزت في الأرض». وكتب إلى والدته أنه شاهد «كومة من الأقدام والأذرع والسيقان تحت شجرة أمام المستشفى واشتم رائحة الأشلاء المتعفنة التي قطعت قبل قليل».

بعد هذه المشاهد قرر ويتمان أن ينضم إلى جيش المسعفين كمضمد جراح. وخلال ثلاث سنوات عالج ما بين 80.000 إلى 100 ألف مريض. لكن من الفريقين المتحاربين، الاتحاديين والفيدراليين على السواء: «لم يعد في إمكاني أن أتركهم. أحيانا يتمسك بي يافع جريح، فأفعل من أجله ما أستطيع». كان يواسي الجنود اليائسين ويقدم لهم شراب الليمون، ويشتري لهم الجيلاتي والسجائر والثياب الداخلية. وأحيانا كان يقرأ لهم الشعر. فيما كان الأطباء يداوون جروحهم كان هو يداوي نفوسهم.

لم ينس تلك السنوات الثلاث «كانت أعمق أمثولة في حياتي. وكانت الناس تقول لي، يا والت إنك تصنع العجائب لهؤلاء الناس. لكن المعجزة الوحيدة كانت تلك التي أصنعها لنفسي». وكالعادة تحولت التجربة إلى شعر وقصائد. وكتب إلى مشجعه وصديقه الفيلسوف رالف إمرسون أن حياته الأدبية سوف تتخذ عمقا وأبعادا أخرى بعد حياة المستشفيات.

خلال الحرب كان ويتمان يتبادل الرسائل مع صديق طبيب يدعى وير ميتشل. ومن خلال الرسائل اكتشف الطب كيف يظل يشعر الذين تقطع أطرافهم بأنها باقية في مكانها، أو ما سمي «الأطراف الوهمية». وعاش أكبر شعراء أميركا على مساعدة شهرية من الدكتور ميتشل: 15 دولارا في الشهر.