قراءة في خطاب الأسد!

TT

في خطابه بمناسبة افتتاح الدور التشريعي الأول لمجلس الشعب السوري الذي تم «انتخابه» مؤخرا، اعترف الرئيس بشار الأسد بأن الدكتور نبيل العربي والسيد كوفي أنان لا يريان الوضع السوري بأعين تخدعهما، لأنهما يفرطان في رؤية وتصديق تلفازي «الجزيرة» و«العربية»، اللذين يفبركان صورة لا وجود لها في سوريا الهادئة والموالية للنظام، تصنعها استوديوهاتهما بالتعاون مع جهات داخلية مأجورة متواطئة معهما ومرتبطة بمؤامرة على الدولة السورية. قال الرئيس لنبيل العربي في أول لقاء جمعهما: «البلد هادئة وليس فيها شيء مما تتحدث عنه». وأضاف: «أنت لا ترى الواقع السوري على حقيقته، بل تشاهد (الجزيرة) و(العربية) وتصدق ما تقولانه من أكاذيب». وكرر الشيء نفسه أمام كوفي أنان، بينما كان يؤكد أن سوريا هادئة، وأن مطاعم دمشق مليئة بالزبائن ومقاهيها مفتوحة في الليل والنهار، وأن كل شيء على ما يرام.

تتسق مع هذا الكلام الرئاسي تصريحات كان الأسد قد كررها في أكثر من خمس مناسبات، أكد خلالها أن الأزمة صارت وراءنا، وأن الواقع يعاكس تماما الصورة التي يقدمها «الإعلام المأجور» عن البلد، وأن الأمر يقتصر الآن على عمليات تنظيف وتطهير محدودة تتم في بعض المناطق، حيث تموضعت خلايا متطرفة تقتل المواطنين، فلا مفر من القضاء عليها كي ينعم المواطنون بالأمان ويواصلوا حياتهم في رعاية النظام المحب، الذي لا هم له غير خدمتهم.

غريب أمر العقل السياسي الذي يدير أزمة سوريا، إن كان هناك حقا عقل سياسي يديرها. عندما كانت الأحداث في بدايتها، وكان من الممكن حلها سلميا وحواريا بكل بساطة، قرر مواجهتها بالحل الأمني، بينما كان واضحا أن الحل السياسي هو السبيل الوحيدة لتلبية مطالب الشعب. وعندما تصاعدت المظاهرات، وكانت جميعها سلمية باعتراف الرئيس في خطابه الأخير، الذي أقر خلاله أن العمليات المسلحة لم تبدأ إلا في رمضان، أي بعد ستة أشهر من انطلاق انتفاضة الحرية، طلع هذا العقل علينا بنظرية غريبة قدر ما هي مضحكة ولا أساس لها من الصحة، تزعم أن الشعب موال للنظام، لكن مدسوسين يرغمونه على الخروج في المظاهرات، فلا مفر من القضاء عليهم لتحريره منهم. هكذا ارتكبت مجازر مريعة استهدفت الشعب باسم حمايته، في حين كان اللسان الرسمي ينكر وجودها وينسبها إلى دعايات «الإعلام المأجور» والمؤامرة الخارجية.

واليوم، وبعد تشكيل حكومة جديدة برئاسة شخص لا يعرفه السوريون، ومشاركة وزيرين من لون سياسي لم يسبق له أن دخل الحكومة، تولى أحدهما «وزارة المصالحة الوطنية»، يبدو التخبط في واقعة أن السلطة انتقلت من سياسة ذات توجه عنيف لا يخالطه أي توجه آخر، إلى سياسة تقوم على مسارين: من جهة وزير يعمل في سبيل مصالحة وطنية لا تعريف ولا حامل لها، لا يدري هو نفسه مع من ستكون وما هي مفرداتها وما مدى قدرته على تطبيقها، وإذا كان النظام وأركانه يريدانها فعلا، ومن جهة أخرى جيش مدجج بالسلاح تشرف على عمله قوى أمنية يساندها شبيحة يشكون كثيرا في أمانته وإخلاصه للسلطة، تطلق بعض وحداته النار من جميع الأسلحة الثقيلة على الشعب، بينما تتصاعد عملياتها ويشتد بطشها وخروجها على أية أعراف وقواعد عسكرية، بقدر ما تتسارع خسارتها في مختلف مناطق البلاد وتكاد تفقد سيطرتها حتى على العاصمة وضواحيها، التي خرج كثير منها عليها ومن يدها.

في مثل هذا الوضع، وخلال يومين من إعلان تشكيل وزارة استغرق تشكيلها وقتا طويلا بالنسبة إلى نظام استبدادي متحكم، لم يلغ الرئيس في كلمته عن «الحرب التي يجب توجيه جميع الجهود من أجل الانتصار فيها» وظيفة الوزارة العتيدة وحسب، بل دمر تماما نظريته عن الأزمة التي صارت وراءنا، وعن «الجزيرة» و«العربية» اللتين تفبركان صراعا لا وجود له في سوريا، مع أن حديثه يؤكد حقيقة مهمة لا أعرف كيف يمكن أن تفوت شخصا يخوض صراعا مصيريا، هي أن الانتقال من الحديث عن الهدوء إلى الحديث عن «الحرب التي يجب الانتصار فيها»، يمثل اعترافا بانهيار سياساته التي اعتمدها خلال الأزمة، ويتجاهل واقعة رئيسية هي أنه لو كان قد انتصر بفضل الحل الأمني لما كان مجبرا الآن على الاعتراف بالحاجة إلى شن حرب، ولاحظ أن تصعيد سياسات القتل ليس ولا يمكن أن يكون نجاحا، بل هو فشل يؤكده إقراره الصريح بأن هناك حربا في البلاد يجب توجيه جميع الجهود نحو الانتصار فيها، بما في ذلك جهد المصالحة الوطنية! وهو أمر أكدته قبل اعترافات الرئيس أرقام القتلى المتصاعدة في كل مكان، مع تعاظم استخدام الأسلحة الثقيلة بصورة كثيفة ومفتوحة ولا قيد عليها ضد مواطنين آمنين ينتشرون في جميع مناطق البلاد، الأمر الذي ينقض بصراحة نظرية أخرى من نظريات النظام وهي أن الشعب موال له ولا يشارك في المظاهرات ضده بل معه. في حديث الحرب إقرار جلي بأنها حرب ضد الشعب وليست ضد عصابات مسلحة صغيرة، فهي حرب على شعب تبين خلال عام ونصف العام أنه عصي على الإخضاع عبر حل أمني، ولم يعد ينفع معه غير الحل الحربي، الذي يعلن اليوم بلسان أعلى رجل في السلطة.

ليس حديث الحرب غير حديث الإقرار بالفشل. الغريب أن الرئيس أجرى عدة مراجعات لسياساته ذهبت جميعها في اتجاه تصعيدي، رغم أن التصعيد كان يعني شيئا واحدا: عدم كفاية العنف لإخضاع الشعب وانعدام قدرته على تحقيق هذا الهدف. والأغرب من ذلك أن لا يكون هناك أي موقف من أهل النظام ومؤسساته تجاه هذه الإقرار بالفشل، الذي يهدد وجودهم وتتطلب مواجهته حلا وطنيا يخرج سوريا من مأزق هم أول من سيفيد من الخروج منه، ويجب أن يكونوا بالتالي أو من يسهم فيه، بعد أن ذاب الثلج وبان المرج كما يقال، وتأكد أن سياسات الرئيس لن تقود إلا إلى مزيد من الفشل، وإلى هزيمة محتمة في زمن غير بعيد، تلوح بوادرها في أربع جهات سوريا الجديدة.