تركيا ـ روسيا.. بين تجاور القوة و«الجيران بالقوة»

TT

طبيعة الموقع الجغرافي لتركيا هي التي حددت عبر التاريخ شكل ومسار علاقاتها مع دول الجوار. فوارق الخيارات والتحالفات كان سببها دائما تضارب المصالح والرؤى. في العلاقة مع روسيا تعرف أنقرة تماما أنه حكم عليها بمجاورة دولة عظمى لن يكون من السهل محاكاتها لأن أقل هفوة سياسية أو عسكرية يمكن أن تتسبب في إشعال مواجهة مباشرة نجح الطرفان في معرفة كيفية تلافيها حتى اليوم بتوسيع رقعة التبادل التجاري والاقتصادي الذي وصل إلى 40 مليار دولار.

سقوط الاتحاد السوفياتي وتفككه كان بمثابة الفرصة الاستراتيجية التي لا تعوض لتركيا، فهي سارعت لالتقاطها ولعبها باحتراف، عززها وصول «العدالة والتنمية» إلى السلطة وقرار توسيع رقعة الانفتاح على الجار الشمالي رغم كل انتقادات واعتراضات الشركاء والحلفاء الغربيين.

لكن حكومة أردوغان التي ما زالت ترى في روسيا الشريك - الفرصة، والقوة الدولية واللاعب الأساسي فيما يتعلق برسم الخرائط والسياسات في الإقليم تعرف أن كل ما بنته من علاقات مهدد بالسقوط وبإعادة البلدين إلى خط جوار القوة الذي تراجع لصالح معادلة «الجيران بالقوة».

كلما اشتدت أزمة النظام السوري تباعدت المواقف والمصالح في الموضوعين السوري والإيراني مما يعرضهما للرجوع تدريجيا إلى حقبة الحرب الباردة التي ستزداد سخونتها. روسيا التي تحاول بكل الطرق إعادة ترسيم حدود محيطها الجيوسياسي منزعجة أيضا من الموقف التركي في موضوع منظومة الدرع الصاروخية الأميركية ونشر المظلات الدفاعية على الحدود الشرقية لتركيا حتى ولو كانت إيران هي بيت القصيد هنا.

الاستراتيجية التركية المعتمدة في مناطق البلقان وآسيا الوسطى منذ مطلع التسعينات والتي ترفع شعار تبني سياسة انفتاحية متوازنة مع دول تلك المناطق وفي مقدمتها روسيا مهددة وفي العمق هذه المرة أمام أكثر من أزمة قد لا تكون بسبب العلاقات الثنائية بل بسبب انعكاسات الأزمات الإقليمية في أكثر من منطقة يعتبرانها جزءا من نفوذهما ومصالحهما هناك.

الرغبة التركية في حماية العلاقات مع موسكو وبقاء روسيا كأكبر مصدر للواردات التركية من الغاز الطبيعي والنفط الخام، وهدف رفع مستوى التبادل التجاري إلى مائة مليار دولار في السنوات الأربع المقبلة بات تحت رحمة تجاوز الكثير من المشكلات والصعاب التي تحاصر وتهدد علاقاتها مع موسكو ومصدرها طهران ودمشق في هذه الآونة.

تركيا التي نجحت حتى الأمس القريب في إقناع الغرب بأهمية تحسين علاقاتها مع روسيا وأن هذا التقارب والانفتاح لن يكون على حساب دورها الأساسي في حلف شمال الأطلسي والتزاماتها الغربية ستجد صعوبة فائقة في إقناع الروس بعد هذه الساعة باستراتيجيتها السلمية في منطقة البحر الأسود عبر تقاسم النفوذ مع روسيا هناك واشتراكها في مشاريع بحر قزوين وخطط إمدادات الطاقة المنطلقة من أذربيجان وجورجيا نحو أوروبا الغربية.

هذا الصرح الذي بني بصبر وعناية سيتعرض للاهتزاز والسقوط إذا ما دخلت الأزمة السورية في مرحلة جديدة من التأزم وفشلت المفاوضات بين مجموعة 5 زائد 1 وإيران النووية وتحركت واشنطن لمطالبة الحليف التركي بتحديد خياراته بأسرع ما يكون.

نظام الرئيس الأسد يكاد ينجح في تحويل الأزمة السورية إلى مواجهة إقليمية دولية تعني تركيا مباشرة، وأنقرة تستعد لرد التحية وهي التي أعلنت أن قواعد اللعبة السياسية والعسكرية تغيرت على الحدود التركية السورية المشتركة.

تركيا تعرف أن الدب الروسي الذي أجبرت على معايشته لسنوات وتجنبته لسنوات أخرى بسبب غفوة الشتاء الطويلة قد استفاق وهو سيطالب الكثيرين بتقاسم مصاريف إشباعه من جوع مزمن وإشراكه في الغنائم التي حرم منها وكان معظمها على حسابه. موسكو لن تغير بمثل هذه البساطة من مواقفها حيال النظام السوري بناء على دروس التجربة الليبية حتى ولو كانت تعرف أنها ستكون أول من سيدفع الثمن بعد سقوط النظام في دمشق وأنقرة تعرف أنها تقف أمام اختبار إقليمي جديد يطال علاقاتها ليس فقط مع روسيا بل مع الكثير من القوى الإقليمية والدولية، رغم أنها رددت أكثر من مرة أنها لن تتساهل مع كل من يتعرض إلى ما بنته في السنوات الأخيرة من علاقات ومشاريع.