الصعود الإخواني والمكارثية الليبرالية!

TT

مما لا شك فيه أن الصعود الإخواني في مصر، والذي توج بعد الاكتساح لكل الاستحقاقات السياسية بكرسي الرئاسة، هو أقصى ثمرة للإسلام السياسي من «الثورات»، صحيح جدا أن ثمة من ما زال يتحرج جدا من تسمية الأشياء بمسمياتها خوفا من سطوة وسلطة اللاعبين الجدد في السياسة الإقليمية للمنطقة؛ إلا أن «الإخوان» أنفسهم ويمكن اقتناص ذلك من إشارات رمزية كثيرة في الاحتفال بالحدث يشعرون بالفخر واستراحة المحارب الثمانيني الذي حقق الظفر في نهاية معركة شرسة جربت فيها كل أنواع الأسلحة فكان السلمي منها الأكثر نفعا، وكان سيف الديمقراطية الغربية هو الحاسم في الفرق بين فسطاط الحق وفسطاط الباطل، ليس كما يصور أتباع «الإخوان» في كل المعمورة؛ بل كما هو حال الشريحة الأبرز من التيارات الإسلاموية وهي مشاعر متفهمة ومبررة وحتى وضعها في سياق الحق والباطل نتيجة طبيعية لأدوات الشحن والتعبئة، وبالتالي لا يمكن محاسبتها وفق منطق «مدني» وضمن شروط اللعبة الديمقراطية التي في كثير من الأحيان تحمل المنتصر أعباء ثقيلة تجعله خاسرا بالمعنى الحقيقي عطفا على التركة الثقيلة التي خلفها له النظام السابق.

إشكالية قراءة الفوز «الإخواني» المستحق ليست في رد فعل الإسلاميين، لأنها طبيعية تماما، لكنها في الضفة الأخرى من التيارات السياسية التي بدت مناوئة على مدى عقود وربما بشراسة للإسلام السياسي تحت غطاء العلمانية أو الليبرالية أو حتى اليسار والقومية، وحتى التنوير الإسلامي، الذي كان يرى أن أحد أهم شروط الدخول في «المدنية» هو الخروج من بوتقة الأحزاب الدينية في المجال السياسي، لأن تسييس الإسلام من وجهة نظرهم تقزيم له، في حين أن قيمه الحقيقة لا تتعارض مع القيم الإنسانية العامة كالحرية والعدالة... إلخ.

وإذا كنا ما زلنا نشهد إلى الآن السجال الطويل غير المجدي - من وجهة نظري - حول فوارق الفوز والأغلبية الصامتة، والاستحقاقات السياسية والوعود التي يبذلها «الإخوان» بسخاء تجاه حلفائهم؛ فإن مكارثية ثقافية جديدة بدأت تولد في مواقع الإعلام الجديد وبعض الصحف حول أي نقد يمس «الإخوان» أو مخاوف تجاه أداء الرئيس الجديد، ويمكن إرجاع حجج المكارثيين «الإخوان» إلى 3 تصورات: فالليبراليون - المتلبرلون يرون أن التسليم بنتائج صناديق الانتخابات مقدس لا يجب المساس به، وأن الليبرالية الحقيقية هي في الإيمان بالعملية الديمقراطية ذاتها بغض النظر عما تفرزه من نتائج، والإسلاميون يرون أن ما حدث هو نتيجة طبيعة لأمة ثارت على الطغيان وعادت إلى رشدها، وأعداء «الإخوان» يستندون إلى أن ثمة ما يدور في الخفاء بين العسكر و«الإخوان» أو بين الاثنين والولايات المتحدة على اعتبار أنها تهيئ «الإخوان» الفصيل الإسلامي الأكثر اعتدالا لمواجهة التمدد الإيراني من جهة (هذه القراءة الإسلاموية للعلاقة بين الإخوان وأميركا)، أو لمواجهة الأنظمة المستبدة بعد قناعة بأنها قد انعزلت تماما عن مجتمعاتها المؤسلمة، وهذه هي القراءة القومية للمشهد رغم أنها تختلف في تقييم الوضع بحسب الموقف من الإسلام السياسي.

من بين كل هذه القراءات تبدو القراءة الليبرالية - المتلبرلة هي الأكثر غرابة ولا واقعية، ذلك أنها تنظر بنظارات براغماتية لا ترى في «الإخوان» سوى حاكمين جدد يجب التعامل معهم كواقع، في حين أن الإشكالية هي في فصل «الإخوان» عن حالة أزمة الهوية بسبب تردي الحالة السياسية في العالم العربي والعودة إلى الجذور وبالتالي الالتصاق بالتعبيرات الإسلامية عن الهوية التي تجلت في الحركة الإسلامية، وأعتقد أن للسلفية منها نصيب الأسد، بينما «الإخوان» لا يشكلون سوى أقلية تملك ماكينة إعلامية قومية، وتنظيما هرميا عابرا للقارات، كما أن انفتاحها السلوكي والفقهي شكل عامل إغراء في جاذبيتها للنافرين من التشدد الديني والأصولية الاجتماعية، وأزعم ثانية وهذا ما يؤكده الواقع أن تطور الخطاب السلفي بتجلياته المتعددة من أقصى العائدين من التطرف المسلح كالجماعة الإسلامية بمصر إلى المتحولين من السلفية إلى التنوير أكثر عمقا من الناحية السياسية من «الإخوان» النص المغلق سياسيا.

القراءة الليبرالية - المتلبرلة لا ترى في «الإخوان» سوى بديل للتشدد، ولا ترى في معيار الاعتدال أبعد من تطمينات على مستوى المعاهدات الدولية ووضعية السياحة والأمن الإقليمي وضمان استمرار الأداء السياسي بطريقة تعددية ولو شكليا.

والحق أن أداء «الإخوان» سياسيا سيكون عكس كل التوقعات، فسيكون حذرا جدا وغير مستفز بسبب حرص الجماعة على البقاء الطويل شبه الأبدي كلاعب رئيسي في معترك السياسة، لكن هذا لا يعكس خروج «الإخوان» من «الشمولية» التي ستصبغ أداءهم الاجتماعي بإيقاعه البطيء والمتغلغل في عمق المجتمعات، بحيث يحدث تحولات عميقة وغائرة في الثقافة السائدة للمجتمعات، وبالتالي يعزز التحول الاجتماعي الإخواني البقاء السياسي المضمون بأكثرية شعبوية تلهمها الخطب الحماسية واللعب على وتر الشعارات، وهو ما يعيد للأذهان ميكانيزمات الخطاب الناصري الذي يأتي الآن في قالب أكثر عمقا بسبب استناده إلى استغلاله لعامل الدين.

الاعتدال السياسي وسيلة الأحزاب الشمولية لإلغاء فروقات المجتمع وإذابة الأمة في بوتقة فكرية واحدة، فهي بتعبير بسيط «إذابة الأفراد والمؤسسات والجماعات في كل اجتماعي واحد حيث الشعب والدولة والمجتمع المتجانس» وهو ما يعني أن توجهات الحزب سيكون لها كلمة الفصل في التوجه العام للدولة والمجتمع.

الشمولية تختلف جذريا عن الاستبداد وإن كانت أسوأ منه؛ فالحزب الشمولي يمكن أن يسوغ سلطته عبر شرعية صناديق الانتخابات، والديمقراطية لدى الأحزاب الشمولية أداة سحرية للدمج بين إرادة الشعب والحزب، كما أن ماكينة الإعلام واستغلال وسائل الاتصال من شأنهما إحكام القبضة على مصادر التلقي لدى الناس، وبالتالي فإن من السهل تصوير المعارضين لإرادة الأمة - الحزب كمارقين وأعداء الحرية والديمقراطية، وبحسب حنة أردنت الفيلسوفة الألمانية التي ساجلت الثورة والشمولية الكليانية بعمق متفرد في كتابيها «في الثورة» و«أصول التوتاليتارية»؛ فإن قوة الدعاية السياسية للدولة الشمولية تكمن في قدرتها الهائلة على قطع الصلة بين الجماهير والعالم الواقعي عبر إقامة عوالم متوهمة متسقة العناصر تنسجم مع عقائد الحزب.

الضمانة الوحيدة لعدم إعادة إنتاج «الديكتاتور الفرد» عبر «الديكتاتور الحزب» هو في فتح المجال للمساءلة والنقد مهما كان قاسيا متى ما كان في حدود اللياقة ذوقا وقانونا، كذلك الخروج من دوامة التعددية السياسية والضمانات إلى الحفاظ على التنوع الهائل والثري الذي تحظى به المجتمعات ومنها المجتمع المصري على مستوى الثقافة والفنون إضافة إلى رعاية المكونات الاجتماعية والإثنية المختلفة بما تحمله من ثقافات وهويات صغيرة.

يجب أن يكف ليبراليونا الأعزاء عن استخدام الديمقراطية كفزاعة في وجه من يشعر بالقلق على هوية المجتمعات وتنوعها من الصعود للأحزاب الشمولية، فالثقافة الديمقراطية تعني حق الجميع في النقد، وأن التعددية السياسية ليس بأكثر أهمية من التعددية الثقافية والاجتماعية.

أعتقد أن مرحلة العهد المكي كما هو التعبير الشائع في أدبيات الحركات الإسلامية قد انتهت، نحن الآن في مرحلة جديدة تقتضي إعادة تفكير حقيقي في مفاهيم الحرية والديمقراطية والتعددية، كما أنها ستعيد النظر في تصنيفات لطالما شنفت آذاننا برنينها كالليبرالية والتقدمية والتنوير، بينما يشعر القلقون من الصعود الإخواني الآن بأنهم أمام محرقة سياسية بسبب مواقفهم النقدية التي تفسر وكأنها ردة عن الإيمان بالديمقراطية، بينما هو نقد في سياسات الجماعة لابتلاع المجتمع عبر الشمولية التي بحسب آرندت ثانية التي ترى في أن عنف الشمولية الحقيقي «يتجسد في تجنيد أتباع لها، بطريقة مرعبة، أكثر مما يتجسد في تصفية جسدية لخصومها».

حين أستمع لخطاب مدعي الليبرالية ممن كانت جل خصومتهم مع التطرف الديني، وحماستهم منقطعة النظير لخطاب الرئيس مرسي الذي أراه شعبويا بامتياز أهمس بابتسامة «عزيزي المتلبرل أخرج الإخواني الذي بداخلك».