«جنيف».. هل تصبح بوابة لحرب إقليمية يريدها الروس والأسد؟!

TT

لم يكشف النقاب عن كل أوراق واتفاقيات مؤتمر جنيف الأخير الذي تمثلت فيه الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، الولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا، بالإضافة إلى تركيا وثلاث دول عربية هي قطر والكويت والعراق وغُيَّبت عنه إيران، ويقال إن المبعوث العربي والدولي كوفي أنان أعد صيغة بديلة في حال فشلت خطته لانتقال السلطة في سوريا، تقترح تشكيل مجلس عسكري، على غرار المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مصر، يدير الأمور في مرحلة انتقالية تجري خلالها انتخابات تشريعية ورئاسية لإخراج البلاد من هذا المأزق الذي إن استمر فإنه سيأخذها إلى المزيد من العنف والحرب الأهلية الطائفية والتمزق.

وإذا كان صحيحا أن أنان قد أعد مثل هذه الصيغة البديلة في حال فشل الاتفاق المعلن الذي أسفر عنه مؤتمر جنيف الأخير وهو قد وُلد فاشلا في كل الأحوال - فإن المؤكد أن الأمور ذاهبة إلى حرب إقليمية قد تتحول إلى حرب دولية، فالرئيس السوري الذي أعلن رفضه لأي حلول من الخارج لا يمكن أن يقبل بالانسحاب والخروج من الحكم واللجوء هو وعائلته إلى دولة تقبل به وببعض أقاربه لحساب مجلس عسكري، على غرار المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مصر، على رأسه ضابط علوي كبير لطمأنة الطائفة العلوية ولتشجيع ضباط هذه الطائفة على التخلي عن بشار الأسد ووضع حد لربط مصير طائفتهم بمصيره.

والمشكلة هنا أن بشار الأسد لا يمكن، كما هو واضح، أن يقبل بإخراج سوريا من هذه الأزمة الطاحنة من خلال قبوله بالتخلي عن السلطة حتى لحساب مجلس عسكري على رأسه ضابط علوي كبير من غير الملوثة أيديهم بدماء أبناء الشعب السوري ومن الذين لهم مكانة بين زملائهم من كبار ضباط القوات المسلحة والذين يحظون بسمعة جيدة لدى الدول العربية وغير العربية المعنية بهذه المشكلة السورية.

وحسب بعض المعلومات المتداولة في الأوساط الضيقة لمتابعين للشأن السوري من الداخل، فإن المشكلة الثانية التي تواجه أي صيغة لحل الأزمة السورية على أساس الانتقال السلمي للسلطة أن بشار الأسد، ورغم كل هذا الذي يحصل ورغم أنه بات ينام في كل ليلة على أصوات الانفجارات التي تهز سكون دمشق، لديه قناعة بأنه في وضعية التفوق ميدانيا وسياسيا وأنه مع الوقت والمزيد من الوقت قادر على حسم الأمور عسكريا لمصلحته وقادر على إلحاق الهزيمة بالجيش السوري الحر وجعل مصير هذه الانتفاضة كمصير انتفاضة «حماه» في عام 1982 التي قمعها والده بالحديد والنار وبسقوط أكثر من أربعين ألف قتيل فضمن لنفسه هدوءا استمر منذ ذلك الحين وحتى منتصف مارس (آذار) من العام الماضي 2011.

والمؤكد أن الرئيس السوري يستمد هذه الثقة وهذه القناعة بأنه قادر على الصمود وعلى الانتصار في النهاية، ليس من مجريات الأمور في الميدان وعلى الأرض، حيث باتت السيطرة لـ«الجيش الحر» على أكثر من خمسين في المائة من البلاد، وإنما من الحَقْنِ المعنوي الذي تقوم به إيران ومن التطمينات التي دأبت روسيا على إغراقه بها وحيث سيكتشف ذات يوم قريب أن حسابات الإيرانيين والروس ومعهم الصين أيضا هي غير حسابات الشعب السوري وغير حسابات المنطقة، ولعل ما يجب أن يتذكره بشار الأسد كيف أن إرادة الشعب الإيراني قد أسقطت شاه إيران محمد رضا بهلوي الذي كان محميا بسطوة «السافاك» وبجيوش جرارة كانت معدة لمواجهة الاتحاد السوفياتي، وكيف أن إرادة شعوب المنظومة السوفياتية قد أسقطت نظام حزب بائس كحزب البعث هو الحزب الشيوعي، الذي كان عدد أعضائه يزيد على اثني عشر مليون، لم يسقط أي واحد منهم «شهيدا» دفاعا عن حزبه.. «حزب العمال والفلاحين»!!

لو أن بشار الأسد، الذي يعتبر نفسه ويعتبره المحيطون به منظرا كبيرا واستراتيجيا لم يجُد الزمان بمثله، يراجع أحداث التاريخ البعيدة والقريبة لوجد أن الثوب المستعار «لا يقي لا من قرٍ ولا من حرّ» ولَتيقَّن من أن الدعم الإيراني والروسي والصيني أيضا، وللأسف، لن يجنبه المصير المحتوم طالما يعتمد على هذا الدعم الخارجي لمواجهة غضبة شعب من المفترض أنه شعبه وأن إرادته فوق كل شيء حتى بما في ذلك رغبة التشبث بالسلطة والتمسك بحكم بات يغوص في الدماء والركام، ليس حتى الرُّكب وفقط بل حتى الأعناق.

في كل الأحوال، إنه غير متوقع أن يستجيب بشار الأسد لا لما جاء في مقررات مؤتمر جنيف العلنية ولا لما جاء في خطة كوفي أنان السرية البديلة التي تقترح انقلابا عسكريا «أبيض» يتم بموجبه انتقال الحكم إلى مجلس عسكري على غرار المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية، فهذا الرجل لديه استعداد أن يذهب بسوريا إلى التقسيم والانقسام وأن يقتل نصف الشعب السوري من أجل أن يبقى في سدة الحكم الذي يحلم بإيصاله إلى ابنه «حافظ الصغير»، وهنا فإن الواضح من خلال متابعة مجريات الأمور في الفترة الأخيرة أن الروس، وبالطبع معهم إيران، غدوا جادين في خيار افتعال حرب إقليمية، ليس لديهم أي ممانعة أن تصبح حربا دولية، لإنقاذ الرئيس السوري من مصير غدا واضحا ومحتوما، ولإظهاره حتى بعد سقوطه كبطل قومي واجه العدوان الخارجي والإمبريالية الأميركية والصهيونية العالمية.

وحقيقة أن مسألة مثل هذه الحرب الإقليمية «الإنقاذية» كانت واردة لدى بشار الأسد ولدى الروس والإيرانيين منذ اللحظة الأولى، وكانت الفكرة أن يتم افتعال مواجهة محدودة مع إسرائيل ليظهر الرئيس السوري على أنه يواجه عدوانا خارجيا وأن المعارضين الداخليين هم مجرد عملاء للصهيونية والدولة الإسرائيلية المعتدية وأنه يُسْتهْدفُ على هذا النحو ومن الداخل والخارج، لأنه «يشكل شوكة في حلق الإمبريالية الأميركية ولأنه ممانع ومقاوم ويرفض إملاءات أميركا والقوى الخارجية»!! لكن هذا التوجه ارتطم بالمخاوف من الإسرائيليين إن هم استُدرجوا للحرب فإنهم لن يكتفوا بمناوشات استعراضية وأنهم قد يحتلون دمشق نفسها ويسقطون النظام نفسه.

لكن مع تطورات الأحداث ومع وصول قبضة الشعب السوري إلى عنق بشار الأسد، تجدد خيار افتعال حرب إقليمية لا مانع من أن تتطور إلى حرب دولية ليظهر، إن هو سقط وأُسقط، كبطل قومي وكضحية لعدوان خارجي ومؤامرة داخلية، وهنا فإن حادثة إسقاط الطائرة التركية تأتي في هذا الإطار، وإن نهر الأسلحة الروسية المستمر في التدفق بغزارة غايته هي هذه الغاية، وكذلك فإن التحرش المستمر بالأردن هو استكمال لاستدراج مثل هذه الحرب التي قد تندلع في أي لحظة في ظل هذه الأوضاع المتوترة رغم استبعادها من قبل الكثيرين.

لقد ثبت أن الروس هم الذين كانوا وراء إسقاط الطائرة التركية، وكان الهدف أن يكون هناك رد سريع من قبل الأتراك ومن قبل حلف شمال الأطلسي (الناتو) واستدراج هؤلاء إلى مواجهة هي في حقيقة الأمر لا تزال واردة وفي أي لحظة، والواضح أن روسيا وإيران اللتين لهما مصالح كثيرة في إغراق المنطقة في حرب جديدة مصرتان على الاستعجال في نشوب مثل هذه الحرب، وبخاصة أن كل المؤشرات وكل الوقائع على الأرض باتت تدل على أن سقوط بشار الأسد غدا مؤكدا وأنه لا إمكانية لإنقاذه إلا بإشعال المنطقة كلها ليظهر كبطل قومي وليعطي سقوطه طابع المؤامرة الخارجية.