عندما قال فهد بن عبد العزيز: استمرارية سياستنا الثابتة

TT

تعلمت من أساتذتي في مهنة الصحافة أن أقول كلمة الحق في كل حياتي العملية لمهنة البحث عن المتاعب التي مارستها منذ عام 1945 وكان عمري 20 سنة، وكنت هاويا لهذه المهنة في وقت كان الوطن السوري محتلا من القوات الفرنسية مع لبنان أيضا عام 1925، وهو عام ولادتي. وكان هدفي العمل في الصحافة للدفاع عن الوطن الحبيب المحتل، وقد دفعني للمهنة بطل الجلاء الرئيس شكري القوتلي، رحمه الله، فهو من أبناء حي المجاهدين - حي الشاغور - الذي تنتسب إليه أسرتي، وقد كان الرئيس القوتلي بمثابة الوالد الموجه لي في حياتي العملية. وتعرفت منه على كامل الشخصيات الوطنية التي ضحت في سبيل وطنها، أرض الآباء والأجداد.

والعمل الصحافي يتطلب أن يكون ممارس المهنة على حق حتى يستطيع أن يتحكم بأعصابه، وينبغي أن لا يستحي من استحقاق الحق واقتناء الحق لأن صوت الحق لا يسمع أحيانا بالإذن ولا بالرأس ولكن بالقلب، ولهذا لا يكون المرء صاحب حق ما لم يدافع عنه.

يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «ما ضاع حق وراءه مطالب». وجاء لابن منظور في لسان العرب قوله: «لكل جواد كبوة، ولكل عالم هفوة، ولكل صارم نبوة».

وأمام هذه المقدمة المتواضعة وجدت نفسي مضطرا بعد مراجعتي للمهنة التي أحبها والتي مارستها 67 عاما وقد سنحت لي إرادة الله تعالى أن أعيش هذا العمر الطويل، وبعد تفكير طويل، كنت مضطرا إلى كشف الحقيقة حتى لا يزوّر التاريخ بسبب معلومة رواها الصديق الزميل الأستاذ سمير عطا الله في مقاله في العدد «12255» في «الشرق الأوسط» بتاريخ 17 يونيو «حزيران» 2012 لأنها لا تستند إلى الحقيقة، ومن معرفتي للزميل منذ عام 1985 بأنه دقيق في معلوماته، ولكن يبدو أنه وقع في هفوة تاريخية تتصل بعملي الصحافي المتواصل وقيامي بالتغطية الإعلامية لأوضاع المملكة العربية السعودية في صحيفة «الحياة» وفي «الأسبوع العربي» ولفترة زمنية طويلة.

تحدث الزميل في مقاله عن شخصية الأمير نايف بن عبد العزيز ولي عهد المملكة ووزير الداخلية بمناسبة رحيله - طيب الله ثراه - وقد ذكر الزميل في نفس المقال أنه كان حديث الانتقال إلى مجلة «الأسبوع العربي» اللبنانية عند حادثة اغتيال الملك فيصل بن عبد العزيز - طيب الله ثراه - وادعى بأنه أرسل مصورا إلى الرياض ليعود بأي شيء ملائم للحدث.

وأجد نفسي مضطرا إلى أن أتحدث للمرة الأولى عن هذه التفاصيل لتوضيح عملي الصحافي. ويبدو أن الزميل لم يكن يعلم بأن لـ«الأسبوع العربي» مكتبا في الرياض منذ خمس سنوات مضت وبموافقة ملكية خاصة من الملك فيصل - رحمه الله - وكنت شخصيا أقوم بكل تغطية إعلامية. وقد أنشئ المكتب بموافقة مبدئية من الفريق علي الشاعر، حفظه الله، سفير المملكة لدى لبنان آنذاك، وبطلب من الصديق ورجل الأعمال الدكتور عثمان العائدي ورئيس مجلس الإدارة والمدير العام لـ«الأسبوع العربي»، ووقفت على رأي الفريق الشاعر الذي رحب بالفكرة.

ولتسهيل مهمتي حملني الفريق الشاعر رسالتين، الأولى للدكتور رشاد فرعون المستشار الخاص، مرفوعة إلى الملك فيصل، والثانية للشيخ إبراهيم العنقري وزير الإعلام في مطلع السبعينات. ولا أريد أن أتحدث تفصيلا عندما تشرفت بمعرفة الأمير فيصل بن عبد العزيز لأول مرة، والتي كانت يوم 17 أبريل (نيسان) 1946 عندما مثل والده العظيم في احتفالات الوطن السوري بعيد الجلاء، كما قابلت الأمير فيصل مرة أخرى عام 1955م في باندونغ عندما مثل المملكة باجتماع دول عدم الانحياز الأول، الذي دعا إليه الرئيس الإندونيسي أحمد سوكارنو والرئيس الهندي جواهر لال نهرو والرئيس اليوغوسلافي جوزيب برونزتيتهو، وكان يرافق الأمير الشاب الدكتور مدحت شيخ الأرض المستشار الخاص في الديوان الملكي. والحديث عن هذه اللقاءات يحتاج كل منها إلى مقال خاص.

وهنا أقول للزميل: إن قصة إرسال مصور من قبل المجلة إلى الرياض كان مستحيلا ولم يحدث ذلك، ويعلم الزميل بأن المصور يحتاج إلى تأشيرة سفر من سفارة المملكة العربية السعودية في بيروت، وأن السفارة لن تمنحه التأشيرة في ذاك التاريخ لأن التعليمات الأمنية الصادرة بسبب استشهاد الملك فيصل قد أوقفت كل اتصال خارجي مع المملكة، سواء الاتصالات اللاسلكية والبرقية وحركة السفر جوا وبحرا وبرا لأي شخص ما عدا الأسرة المالكة التي أخذت تعود من الخارج إلى الرياض لتشارك في تشييع الراحل الكبير. وكان سبب تلك الإجراءات هو الحدث الأمني الفاجع الذي تعرضت له المملكة لأول مرة في تاريخها. وصدرت الأوامر الأمنية بشأن تسهيل أجواء المملكة لقدوم القيادات العالمية عربيا وإسلاميا ودوليا للمشاركة في تشييع جثمان الراحل العظيم.

وباعتباري كنت الصحافي العربي الوحيد في المملكة العربية السعودية فقد قمت بالواجب بالتغطية الإعلامية الكاملة في ذاك اليوم المشؤوم، وكانت الدموع تذرف من عيني لفقدان الملك القائد الشجاع، ولكن كان الواجب المهني يدفعني إلى تسجيل كل نقاط الحادث مع الصور الخاصة التي التقطتها من آلة التصوير التي أحملها. لذلك سجلت الحادث الفاجع منذ وقوعه بعد إعلان البيان الرسمي من الديوان الملكي متضمنا تفاصيل الحادث المؤلم وتسلمته من معالي الشيخ إبراهيم العنقري وزير الإعلام، والذي ينص على الحادث الخطير في استشهاد الملك فيصل - رحمه الله - كما نص على مبايعة القيادة السعودية بزعامة الملك خالد وولي عهده الأمير فهد والأمير عبد الله النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء رئيس الحرس الوطني الملك الحالي - حفظه الله ورعاه - ولم أتمكن من دخول الديوان الملكي بينما كنت أدخل الديوان كل يوم لحضور مجالس الملك فيصل الصباحية والمسائية المفتوحة لأبناء الوطن وتناول الطعام على مائدته - رحمه الله - حيث كنت أتمتع بثقة ملكية من الملك الراحل ومن صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز (الملك) وزير الداخلية آنذاك، ومن صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير الرياض، الذي كان صديقا لرجال الصحافة الداخلية والعربية وبمثابة أمير الصحافيين ومن كبار الأمراء ووزراء الإعلام. كما سجلت في اليوم التالي مراسم تشييع جثمان الفقيد بحضور القيادات العالمية التي شاركت المملكة في هذا اليوم الحزين لمثواه الأخير ثم مبايعة القيادة الجديدة.

والحقيقة كنت شديد التفكير وماذا أعمل بهذه المعلومات التي سجلتها والصور الحية التي التقطتها للحادث وكيفية إرسالها للمجلة، لأنني حريص على أن أقدم معلوماتي الصحافية كل يوم دون تأجيل. لذلك سجل لي التاريخ بعض المواقف الصحافية السباقة التي لم يسجلها أحد آخر. وكنت دقيقا في كل معلوماتي ولم يسبق أن تعرضت لحادث نفي أي خبر كان.

لقد جاءني الفرج يوم 26 مارس (آذار)، اليوم التالي للحادث المؤلم، عند وصول الوفود العالمية التي شاركت في التشييع، وكان منها الوفد اللبناني برئاسة رشيد الصلح رئيس الحكومة، وضم شخصيات كبيرة تمثل كل لبنان ومن الرؤساء السابقين ومنهم كميل شيمعون، ومن الزعماء السياسيين الشيخ بيار الجميل وريمون اده وغيرهم من السياسيين، وغاب عن الوفد الرئيس اللبناني سليمان فرنجية بسبب الوضع الأمني في لبنان.

لذلك كانت الوسيلة الوحيدة أمامي لتغطية الحدث الحزين أن أسافر على متن الطائرة اللبنانية التي حملت الوفد الرسمي للرياض. ولجأت إلى الصديق معالي الشيخ إبراهيم العنقري وزير الإعلام - رحمه الله - وكان في الديوان الملكي مع القيادة السعودية الحزينة التي خلفت قيادة الملك الراحل، ورجوته المساعدة في أن أسافر إلى بيروت للقيام بالواجب المهني. وسألني: ما هي الطريقة وحركة الطيران المدني متوقفة؟ قلت له: إمكانية سفري مع الوفد اللبناني. فاقترح عرض الموضوع على ولي العهد الأمير فهد الذي كان يستقبل الوفود المعزية، ورافقت الوزير لمقابلة الأمير فهد، وسموه يعرفني حق المعرفة. واغتنم وزير الإعلام الفرصة وهمس في إذن الأمير فهد بما عرضته، ووافق سموه على هذه الفكرة باعتباره يقدر أهمية المسؤولية الإعلامية، واستدعى معالي الشيخ أحمد عبد الوهاب رئيس المراسم الملكية الموجود في الديوان الملكي وطلب منه عرض الموضوع، مستأذنا من رئيس الوفد اللبناني الرئيس الصلح الذي وافق فورا على رغبة ولي العهد السعودي.

وعاد الشيخ عبد الوهاب ليبلغ سمو الأمير فهد بالموافقة، وعندها خاطبني الأمير فهد رحمه الله: رحلة إعلامية موفقة لتقوم بالواجب.. وعندما عرضت على سموه سؤالا عن سياسة العهد الجديد، أجابني فورا: «أعتقد يا أخ مطيع أنك قضيت في المملكة فترة كافية لكي تأخذ فكرة واضحة تماما عن الأسلوب المتبع فيها، حكما وإدارة، وهي أسس ثابتة متبعة منذ أن أنشأ هذه المملكة جلالة المغفور له الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - لذلك سياستنا استمرارية لتاريخنا وماضينا المجيد»، وقال سموه في حديث لاحق: «ليس لدينا قرارات اعتباطية نصدرها اليوم ونرجع فيها غدا». ورجعت فورا إلى داري ومكتبي وحملت جميع أوراقي وفيلم التصوير وأسرعت إلى المطار، الذي كان داخل مدينة الرياض، وهو مليء بالوفود العالمية، ووجدت الشيخ أحمد عبد الوهاب أمام الطائرة اللبنانية برفقة صاحب السمو الملكي الأمير سطام بن عبد العزيز نائب أمير الرياض في ذاك التاريخ، الذي استقبل الوفود العالمية وودعها، وكان الشيخ أحمد ينتظرني لتأمين سفري تنفيذا لأوامر الأمير فهد، لذلك هو الشاهد الحي - حفظه الله - على هذا الواقع، وكان أعضاء الوفد اللبناني في مقاعدهم، وقد غضب الرئيس شيمعون بسبب تأخير سفر الطائرة مدة عشر دقائق، ولكن هدّأ باله رئيس الحكومة رشيد الصلح قائلا للرئيس شيمعون: من واجبنا أن نكون وسيلة لتغطية هذا الحادث الفاجع لدولة عربية شقيقة عزيزة على لبنان في صحافتنا اللبنانية العربية، وغياب زعيم عربي صديق كبير لوطننا لبنان. لذلك الرئيس الصلح هو الشاهد الحي أيضا - حفظه الله - على هذا الواقع.

ولدى وصولي إلى مطار بيروت توجهت إلى دار «الأسبوع العربي» في حي الأشرفية، واجتمعت بالصديق الدكتور عثمان عائدي المشرف على شؤون المجلة، وشرحت له كيف وصلت إلى لبنان للقيام بواجبي، فشكرني على تلك الجهود ووضعني في غرفة خاصة لكتابة تفاصيل الحادث، واختير غلاف المجلة: صورة خاصة للملك خالد بن عبد العزيز رحمه الله، الذي خلف الملك الراحل، محاطا بكبار الأمراء، ووضعت على الغلاف عبارة «الاستمرارية» التي حملني إياها الأمير فهد عند رحلتي الصعبة، بينما أشار الزميل عطا الله في مقاله بجريدة «الشرق الأوسط» وقال: «يخطر لي العنوان والصورة كلما شاهدت المملكة حدثا من أحداث القدر، يبدو الغياب محزنا مهما كان قدريا، وتبدو (الاستمرارية) مطمئنة مهما كان الزمن صعبا».

لقد عرض المقال في خمس صفحات من المجلة مع الصور الناطقة لقيادة المملكة الجديدة، وتحدثت فيها عن الحادث المؤلم الكبير مفصلا مع صور كبار الأمراء وهم يحملون جثمان الملك الراحل، يتقدمهم الأمير سلطان بن عبد العزيز وزير الدفاع - طيب الله ثراه - والأمير عبد الله الفيصل رحمه الله نجل الراحل، والأمير فواز بن عبد العزيز أمير مكة المكرمة، وجموع غفيرة من الأمراء والمواطنين. وفي الصفحات التالية صور لقادة العالم الذين شاركوا في تشييع الملك القائد، وصور أخرى عن الليلة الأخيرة في حياة الفيصل مع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات (أبو عمار)، ومواضيع أخرى عن حكم الشرع على القاتل. ونشر التحقيق في العدد رقم «825» بتاريخ 30 مارس 1975م، وفي مقدمة هذا المقال وضع قسم التحرير اسمي بحروف كبيرة باعتباري الوحيد الذي استطاع تسجيل هذه المعلومات الخاصة لمجلة «الأسبوع العربي».

لذلك أقول حقا إن مجلة «الأسبوع العربي» كانت فعلا في ذاك اليوم مصدرا إعلاميا لكل وكالات الأنباء العالمية الموجودة في لبنان والتي وزعت الحادث الجلل والصور في أنحاء العالم الخارجي نقلا عنها.

وبعد عودتي إلى الرياض حققت من خلال علاقتي وصداقتي المهنية مع القيادة الجديدة، ورغم المهام الجسام والمسؤوليات الكثيرة التي صادفت القيادة استطعت الحصول على حديثين خاصين من الملك خالد بن عبد العزيز ومن ولي عهده الأمير فهد بن عبد العزيز - طيب الله ثراهما - وأخذت جزءا من وقتهما للإجابة على الكثير من الأسئلة التي تهتم بها القيادة السعودية في المجال الداخلي والعربي والدولي، ونشرا في مجلة «الأسبوع العربي».