فن التلخيص

TT

كثيرا ما يسألونني عن إرسال رسالة لأحد المسؤولين. جوابي التقليدي: عليكم بالاختصار. أقول ذلك بوحي عملي ككاتب ترد إليه رسائل كثيرة من القراء. حالما أفتح رسالة من أحدهم وأجد أمامي 3 أو 4 صفحات أرمي بها في المهملات. وإذا تعطفت فلربما أقرأ منها بضعة أسطر لأحيط علما بموضوعها قبل تمزيقها. بعض زملائي يقرأون ما فيها من مديح لهم. أنا ممن يتجاوز ذلك ويبحث عن الشتائم.

لا أكاد أجد حكاية تعبر عن حرص المسؤولين على الإيجاز كالحكاية التي مر بها محافظ البنك المركزي في بغداد عندما كان نوري السعيد رئيسا للوزراء. طرحت في تلك الأيام مسألة بقاء العراق في منطقة الإسترليني. اقتضى تكليف خبير عالمي ليدرس الموضوع ويعطي رأيه فيه.

انكب الرجل على دراسة اقتصاديات العراق عدة أشهر، ثم كرس عدة أشهر أخرى في كتابة التقرير بنحو 450 صفحة. تسلمه الموظف المختص وقدمه للمحافظ. ما أن رآه هذا حتى ارتعدت فرائصه ذعرا من حجمه وتفرعاته. التفت إلى الموظف وقال: يعني أنت تعتقد أني ما عندي أي شغل أو عمل غير قراءة هذا التقرير؟ روح وليدي، روح لخص لي التقرير بما يكفي ويتسع له وقتي.

تأمر بيك. قال الموظف وأخذه إلى البيت وانكب عليه حتى استطاع اختصاره إلى ما يقرب من ثلاثين صفحة. طبعها وقدمها للمحافظ. تصفحها ثم رفع رأسه وقال: زين، أنا أقرأ هذي الثلاثين صفحة. وعلى العين والرأس، لكن تفتكر أن معالي وزير المالية راح يكون مستعدا لقراءة كل هذا الكلام؟ روح وليدي روح، لخصها بما يكفي للوزير أن يقرأها.

تأبط الموظف الملف وعاد لينكب على الموضوع ثانية ويلخصه في 9 صفحات لا أكثر. حملها راضيا بها وسلمها للمحافظ. شكره على حسن فعله وحدد موعدا مع الوزير لتسليمها. وهو ما كان. فتح الوزير الملف وتصفح التسع صفحات ثم التفت للمدير وقال: شكرا ولكن هذي تسميها خلاصة؟ 9 صفحات مليانة كلام؟ إذا كان بإمكاني أن أقرأها، تعتقد الباشا عنده الوقت لقراءتها؟

كان يشير بالباشا لرئيس الوزراء الذي كان معروفا بكرهه للقراءة. طلب الوزير من المحافظ تلخيص هذه الخلاصة من خلاصة التقرير إلى صفحة واحدة ليضمن قراءتها من قبل رئيس الحكومة. وهذا ما جرى ونفذ الموظف الطلب.

مرت الأيام ولم يسمع الوزير من الباشا أي تعليق على خلاصة ما أوصى به الخبير في هذا الموضوع الخطير المتعلق بمصير الدينار. لم يسمع منه شيئا حتى التقى به ذات يوم في إحدى الحفلات فسأله عن الموضوع. أجابه رئيس الوزراء، أي موضوع؟

«موضوع الإسترليني يا أبو صباح. تتذكر؟ أعطيتك خلاصة تقرير الخبير المالي»؟

أجابه رئيس الوزراء: «أوه! أنت جبت لي هذي الصفحة المليانة كلام. أنا عندي وقت أقرأها وهالمشاكل كلها عندنا؟ قل لي بكلمتين وخلصني: ش يقول الخبير المالي؟ يعني نبقى بمنطقة الإسترليني أو ننسحب منها؟ كلمة واحدة وبلا كل هالوجع الرأس»!

وهذه كانت حكاية خلاصة خلاصة خلاصة التقرير الخطير.