الشأن الثقافي في العالم العربي

TT

حديث الثقافة والعمل الثقافي في الوطن العربي حديث ذو شجون. إنه، بالجملة، ينقلنا إلى جوف الإشكال الذي لا نزال في العمق نتخبط فيه منذ عقود كثيرة، بل ربما وجب القول إنه، بالجملة، ينقلنا إلى جوف الإشكال الذي لا نزال في العمق نضطرب فيه منذ عقود كثيرة، بل ربما وجب القول إن الأمر كذلك منذ بداية النهضة العربية - في منتصف القرن التاسع عشر.

ما الصورة التي نرى أنها للثقافة (وللعمل الثقافي) في العالم العربي؟ ما الصورة في عمل الحكومات أولا؟

ظلت أغلب الحكومات العربية، إلى وقت قريب، تلحق العمل الثقافي بقطاع حكومي دون أن تفرد لعمله وزارة تختص بالثقافة وحدها (ولا يزال الأمر كذلك بالنسبة لبعض الحكومات العربية حتى اليوم). كذلك كان الشأن في الأنظمة العربية الشمولية، أي تلك التي ما فتئت تعلن انتسابها إلى المنظومة القومية العربية (البعثية أو الناصرية) أو إلى الدائرة الاشتراكية، وربما إلى الاثنين معا، وكذلك كانت الثقافة ملحقة بوزارة «الإرشاد القومي» - وفي هذه التسمية دليل على صورة الثقافة والوجهة التي يراد لها أن تسير عليها. وأنت لو تمعنت قليلا في المغزى القائم وراء «الإرشاد» في الأنظمة الشمولية (إجمالا) لتبينت أن المراد منه لا يخرج عن التوجيه الآيديولوجي الصارم، فليس للثقافة أن تحيد عما يريده الحزب الواحد الحاكم، متى وجد، أو عما تريده «الإرادة الشعبية» ممثلة في مجلس الدولة الحاكم، مدنيا كان أو عسكريا. لا تملك الثقافة في حال مماثل، وأنى لها ذلك، أن تحيد قيد أنملة عن الخط الآيديولوجي للسلطة الحاكمة، لا بل إن الثقافة تغدو محض بيانات وشروح آيديولوجية يعتبر الخارج عنها مارقا (بنفس المعنى الذي يكون الحديث فيه عن المروق من الدين أو العقيدة). ونحن إذ نتصفح الكثير من منشورات «الإرشاد القومي» فنحن نجد آيديولوجيا وكتابة آيديولوجية ولا نجد ثقافة، أو قل إننا نرى الثقافة في أسوأ صور التردي والسقوط.

وفي دول عربية، قليلة على كل حال، كنا نجد أن الثقافة تحال على القطاع الحكومي المكلف بالتعليم (وزارة التعليم والثقافة). من المفهوم أن ربط الثقافة بالتربية والتعليم يجد كثيرا من المبررات المقبولة، فهو يبعد الثقافة عن هيمنة «الإرشاد» وأدوات العمل الجهنمية التي يركن إليها، ونحن نجد «هامشا» أكبر من الحرية، غير أننا ندرك أن الثقافة لا تملك أن تبلغ سن الرشد الإداري، ولا أن تستقل عن توجيه يحصرها في دائرة ضيقة - لعل أبسط تبعاته أنه يقصي الثقافات غير العالمة إقصاء كليا، وأنه يشد الثقافة إلى عجلة التلقين والتكوين، ومهما يكن من نبل هذا التوجه فإنه لا يقدر أن يمكن الثقافة من مناخ الحرية الكامل الضروري لعملها ووجودها.

نلاحظ، من جهة أخرى، أن الثقافة، في بعض الدول العربية، لا تزال حتى اليوم مرتبطة بالقطاع الحكومي المسؤول عن الإعلام (وزارة الإعلام والثقافة). أما الشأن في هذا الارتباط فليس يخرج عن حالين اثنين، فإما أن يكون القصد من تمتيع الثقافة بالإمكانات والوسائل التي يمتلكها القطاع الحكومي المسؤول عن الإعلام (القنوات التلفزيونية المملوكة للدولة، والإذاعات، الوسائل السمعية البصرية، الشبكة الواسعة من المراسلين داخل الوطن وخارجه...)، وحاجة الثقافة إلى هذه الإمكانات والوسائل أكيدة، وقطاع الثقافة إذ يكون بعضا من قطاع الإعلام فهو يدرك، لا شك في ذلك، ما لا يملك بلوغه قطاع الإعلام في نظم حكومية أخرى في الدول النامية. وإما أن الثقافة تغدو، بالضرورة، خاضعة للرقابة الصارمة التي لا يزال الإعلام يخضع لها في بلداننا العربية - وهذا الخضوع وتلك التبعية تجعله أقرب ما يكون إلى المجال الأمني وما يستوجبه من سلوك ومواقف.

وأخيرا فنحن نلاحظ، منذ ثلاثة عقود أو أقل قليلا، أن الكثير من الحكومات العربية قد أفردت الثقافة بوزارة مستقلة، فهي، من حيث التنظيم الإداري الحكومي، مستقلة بذاتها ليست لقراراتها أن تخضع لرقابة قطاع حكومي آخر غيرها. بيد أن الأمر لا يخلو، مع ذلك، من جملة مشكلات عويصة (ترجع إلى التداخل الذي يقوم بين عمل وزارة الثقافة في البلد العربي الواحد وبين الوظائف التي ظلت تسند إلى قطاعات حكومية أخرى ليست تتصل بالثقافة ضرورة)، وهذا من جهة أولى، وترجع إلى الإمكانات الهزيلة التي توضع تحت تصرف القطاع الحكومي المسؤول عن الثقافة من جهة أخرى. وهذه الجهة الثانية تستوجب منا وقفة ضرورية وتنقلنا دفعة واحدة إلى جوف الإشكال المتصل بالشأن الثقافي، في أعين الحكومات العربية. وأستسمح القارئ العربي الوقوف عند مثال الثقافة وصوتها في العمل الحكومي في المغرب، وإن كنت أحسب أنه، من جوانب كثيرة، يقبل التعميم على الأغلب الأعم من الدول العربية، كما أميل إلى الظن أن جمهرة غير قليلة من المثقفين العرب توافقني فيه الاعتقاد.

تبلغ النسبة المئوية العامة من الميزانية السنوية (الموازنة) المخصصة للثقافة في المغرب أقل من واحد في المائة - وقد سمعت بعض وزراء الثقافة السابقين في المغرب يعتبرون «واحد في المائة» أملا يرتجى وهدفا يتطلع إليه! وبعبارة أخرى فإن الميزانية العامة التي تخصص لمديريات تتبع بعض الوزارات تفوق هذه النسبة الضئيلة بكثير. هنالك مثل فرنسي شهير يتحدث عن الشعور الذي ينتاب العضو الفقير جدا داخل العائلة الوافرة الثراء. كذلك يجوز تشبيه قطاع الثقافة داخل المجموعة الحكومية التي تفوق ميزانيات مديريات تابعة لها ميزانية وزارة الثقافة برمتها. ربما كانت الصورة التي نستهدف رسمها في الأذهان.

يقضي الدستور المغربي الحالي (وقد كان الاحتفال قبل بضعة أيام بالذكرى الأولى لإقراره) بوجوب تقديم الحكومة، أول تأسيسها وطلب المصادقة على تكوينها من البرلمان، للسياسة التي تعتزم تطبيقها في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والثقافية. فأما من الناحية الشكلية فقد تم ذلك، تماما كما يقضي بذلك الدستور المغربي الجديد، أما واقع الممارسة العملية فإن دار لقمان لا تزال على حالها. نحن إذن، من جهة أولى، أمام «دسترة» للثقافة (كما يقال في الأدبيات السياسية المغربية)، أي نحن أمام ارتقاء بالثقافة للحديث عنها في القانون الأسمى وأمام اعتبار الثقافة من مستلزمات التنمية المستدامة والعمل الشامل، ومن أسس العمل الحكومي ومكوناته. ونحن، من جهة أخرى، أمام إمكانات هزيلة تقل بشكل مثير عن الأهداف البعيدة المتوخاة.

المثال المغربي (ومرة أخرى نقول إنه في تقديرنا يقبل التعميم على البلاد العربية الأخرى) يدل على الجمود في النظر إلى الثقافة، معناها والوظائف المأمول منها النهوض بها، على تصور يقضي باعتبار الثقافة ترفا أو، في أفضل الأحوال، زينة يكون في الوسع دوما إرجاؤها إلى المراتب الأخيرة - إن لم يكن الأمر يقضي باعتبارها عائقا يشوش الرؤية ويمنع من عمل التنمية الاقتصادية. لا يتعلق الأمر بهزالة الإمكانات المالية والبشرية التي ترصد للعمل الثقافي، بل إن الأدهى والأمر هو الموقف المتخذ منها.

لا يتسع المجال للحديث عن الثقافة وصورتها خارج العمل الحكومي في العالم العربي (فالحديث خارج هذه الدائرة يستوجب أن يفرد له حديث يطرح بعض القضايا ويدل على بعض مواطن الألم الأخرى)، ولكني أختتم حديثي اليوم بذكر مثالين اثنين، كل منهما يدل بذاته. المثال الأول هو أن نصيب البرامج الثقافية من مجموع ساعات البث التلفزي في القنوات الرسمية التلفزيونية في المغرب لا يتجاوز بضع ساعات من مجموع ساعات الأسبوع. والمثال الثاني هو أن البرامج الثقافية، على ندرتها المثيرة للشفقة، يدفع بها في الإرسال التلفزي إلى الساعات المتأخرة من الليل. حديث الثقافة والناس نيام، تلك صورة الثقافة في وطننا العربي بالجملة.