القهوة والقلب.. مشوار البراهين العلمية

TT

ما يمكن أن يتطور الطب به في معالجة الناس ووقايتهم من الإصابات بالأمراض المختلفة هو ببساطة: «إنتاج معلومات طبية مبنية على أسس علمية من البراهين والأدلة» ثم تطبيقها في جهود خدمات المعالجة والوقاية، ثم مراقبة وتقييم نتائج هذا التطبيق».

وإذا لم تنهج الهيئات المعنية بتنفيذ خطوات وتقديم خدمات معالجة الناس ووقايتهم من الأمراض، هذا النهج في عملها وخدماتها، فإنها تغدو كمن يبذل الجهود الفاشلة تلو الجهود الأشد فشلا، وهو يحسب أنه يحسن صنعا! وما علينا تذكره أن الطب يتعامل مع جسم الإنسان، وهذا الجسم يعمل وفق قوانين وأنظمة غاية في الدقة والتعقيد، وأن اختلال وظائف الجسم بفعل الأمراض يتبع تأثرها بما هو بالفعل ضار بها، والمعالجة الفاعلة لهذه الاختلالات لا تكون إلا بوسائل فاعله يتفاهم الجسم معها ويعرف لغتها جيدا.

دعونا ننظر إلى أحد أشهر الأوهام الطبية التي انتشرت «على أنها شائعة» إلى أن أصبحت «حقيقة» تكتب في الكتب الطبية وتعطى على أنها نصيحة للأطباء في مراحل التعليم والتدريب، وهي النصيحة بعدم شرب القهوة coffee خاصة من قبل مرضى القلب.

بداية، لا يعلم على وجه الدقة من أين أتت هذه النصيحة، وما مصدرها، وعلى أي أسس علمية بنيت.. ولكنها انتشرت. هذا مع العلم بأن القهوة أمست اليوم رابع مشروب يتناوله أهل الأرض، بعد الماء ثم الشاي ثم المشروبات الغازية. وضمن محاولات الأوساط الطبية تطوير نفسها وتحسين جودة معالجاتها الطبية، قام كثير من الهيئات العلمية بتبني نهج «الطب المبني على البراهين العلمية الدالة». وكانت القهوة والشوكولاته والأسبرين والروبيان واللوبيستر، والمشروبات الغازية، وغيرها كثير، ضمن ما تم وضعه تحت المجهر الطبي في البحث العلمي.

ومن «حزمة» الدراسات الطبية في السنوات القليلة الماضية وصلنا إلى ملاحظة مفادها أن تناول مشروب القهوة ليس سببا في الإصابة بأمراض القلب، خاصة أمراض شرايين القلب coronary artery disease التي تعتبر اليوم «القاتل العالمي الأول»، وأن تناول القهوة يقلل من احتمالات الإصابة بفشل القلب heart failure وهو ما دلت عليه مؤخرا الدراسة العلمية للباحثين من جامعة هارفارد، التي تبنت إجراءها المؤسسة القومية للصحة بالولايات المتحدة National Institutes of Health، ونشرت ضمن عدد 26 يونيو (حزيران) الماضي من مجلة «الدورة الدموية - فشل القلب» Circulation Heart Failure الصادرة عن «رابطة القلب الأميركية» AHA.

وهذه الدراسة راجعت مجمل نتائج خمس دراسات طبية كبرى شملت ما مجموعه 140 ألف شخص ومدى إصابتهم بفشل القلب خلال نحو 10 سنوات من المتابعة الطبية، بين عامي 2001 و2011. وتبين منها أن تناول القهوة بكميات تعادل خمسة أكواب يوميا يقلل من خطورة الإصابة بفشل القلب بنسبة 11%. وكمية أربعة إلى خمسة أكواب يوميا، بحجم 8 أونصات لكل كوب، تعرف طبيا بأنها «استهلاك قهوة بكمية متوسطة» moderate coffee consumption. وللعلم، ثمة في الولايات المتحدة وحدها 5 ملايين شخص مصابون بفشل القلب، يموت سنويا منهم 300 ألف شخص، وفق إحصاءات المؤسسة القومية للصحة بالولايات المتحدة.

كما أشار الباحثون في دراستهم إلى النتائج السابقة لدراسات طبية أخرى التي لاحظت أن تناول هذه الكمية اليومية من القهوة يقلل من احتمالات الإصابة بالنوع الثاني من مرض السكري، وهو المرض الذي يعتبر أحد العوامل الرئيسية في خطورة الإصابة بأمراض شرايين القلب وفشل القلب. كما أنه يقلل من الإصابات بمرض باركنسون العصبي وسرطان الكبد وتليف الكبد.

ومن قبل، وتحديدا في 17 مايو (أيار) الماضي، نشرت مجلة «نيو إنغلاند أوف ميديسن» نتائج دراسة الباحثين من فرع أبحاث السرطان الوبائية والجينية Division of Cancer Epidemiology and Genetics، التابع للمؤسسة القومية للسرطان بالولايات المتحدة، والتي قيم بها الباحثون فيها العلاقة بين تناول القهوة وأسباب الوفيات لدى شريحة من الأميركيين بلغت 400 ألف شخص من الجنسين ممن تراوحت أعمارهم بين 50 و71 سنة. وتبين لهم أن من يشربون القهوة هم أقل عرضة للوفيات، وبنسبة 10%، بأسباب كل من: أمراض القلب، أمراض الجهاز التنفسي، الجلطات الدماغية، إصابات الحوادث، مرض السكري، الالتهابات الميكروبية.

وعلى الرغم من كل هذه الملاحظات العلمية الطبية، وغيرها كثير صدرت في السنوات القليلة الماضية، فإنه لا تزال الأوساط الطبية المتبنية لنهج «الطب المبني على البراهين العلمية الدالة» لا تضع ضمن نصائحها الطبية ضرورة حرص الناس على شرب القهوة بشكل يومي. وهذا أمر منطقي لأنك حينما تواجه إرثا تاريخيا لمشكلة ما، كالقول إن «شرب القهوة شيء ضار بالصحة» عليك أن تثبت أولا أن من غير الصحيح إطلاق عموميات مثل هذه العبارة، ثم تبحث في الحالات التي ربما يهدد استقرارها الصحي تناول القهوة، وتبحث في تقدير كمية القهوة التي تفيد ولا تضر باعتبار أن المبدأ المنطقي يقول «كل ما زاد عن حده انقلب إلى ضده»، ثم غير هذا من الخطوات البحثية التي تصل بنا في النهاية إلى وضع نصيحة طبية مبنية على أسس علمية سليمة من البراهين الدالة.

* استشاري باطنية وقلب

مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض

[email protected]