العقل والتواضع والعمل

TT

بمناسبة الصيف والإجازات..

في الحقب الأخيرة وبعد أن (دارت الأيام)، وأصبح لأهل الخليج ثقل مادي وسياسي، وهم الذين كانوا (مستضعفين في الأرض) تقريبا، من شدة تخلفهم وجهلهم وفقرهم، وبعد أن منّ الله عليهم وتدفق البترول من أراضيهم وتحول إلى مال وعلم ومشاريع وبناء وتحضر، انقلبت الآية، وإذا هم بين عشية وضحاها يشار إليهم بالبنان.

غير أنه في كل مجتمع لا بد وأن تطفو على السطح فئة سفيهة لا تقدر (النعمة) ولا تحافظ عليها. صحيح أن تلك الفئة قليلة، ولكن السمعة السيئة القليلة قد تؤثر على السمعة الطيبة الكثيرة، وهذا ما هو حاصل بالفعل للأسف، من تصرفات بعض (الشواذ) من أغنياء الخليج في بلاد الله الواسعة.

ولكن لا تذهبوا بعيدا، فها هي مصر عندما كانت في القمة أوائل العشرينات الميلادية من القرن الماضي، حينما لم يكن عند أهل الخليج غير الرمل والجمل والقحط وبيت الشعر والطين.

اقرأوا ما كتبه (نخلة باشا). قال:

«أنبأني رجل من كبار الماليين في باريس أن متوسط ما تربحه باريس وحدها من المصريين في كل صيف ثلاثون مليون فرنك، ومثل هذا الإحصاء خاص فقط بما يمكن العالم به، وما خفي كان أعظم، وهو يتناول الإحصاء عادة كأجور الفنادق والملاهي والملاعب والحانات، وربما كان من مواخير البغاء الرسمية دون ما يعطى للأخدان، ويقال إنه قلما يوجد رجل من الذين اعتادوا الاصطياف في أوروبا من المصريين لأجل التمتع بالشهوات ليس له خدن يكثر الاختلاف إليها من بيتها أو تختلف إليه في البيت الذي يقيم فيه من الفنادق العامة.

وللقمار مقامر عامة يمكن إحصاء ربحها وخسائر الشعوب فيها، ولكنّ المبتلين به من المصريين لا يحصرون مقامرتهم فيها، بل يقامرون أصدقاءهم وأخدانهم من النساء والرجال في البيوت والملاهي والمتنزهات، وقد بلغنا أن (عمر باشا سلطان) قد خسر بالمقامرة في صيف سنة 1921 (لعلها السنة التي مات فيها أو السنة التي قبلها) عشرات الآلاف من الجنيهات في ليلة واحدة، وهي تعادل اليوم بقيمتها السوقية ملايين الجنيهات.

هؤلاء الأغنياء المسرفون هم الذين يبذرون الأموال في سبيل الشهوات المحرمة والفخفخة الجديرة بأن تسلب ما وهبوا من النعمة.

أي عداوة للوطن وجناية عليه أكبر من نزح ثروته منه وإعطائها للأجانب؟ ولو أن السفهاء يجعلون ما ينفقون في غير الضار لهم من شهواتهم وفي ما ينفع الوطن من المشروعات العلمية والعملية لأمكن لمصر أن تضارع أوروبا وتباريها في زمن قصير، سواء كان هذا البذل تبرعا في سبيل المصالح العامة أو استغلالا للمال في ما يرقي الزراعة والصناعة والتجارة ويحفظ ثروة البلاد من الضياع». انتهى.

وإليكم هذه الحادثة المؤكدة: في أوائل الأربعينات الميلادية، ذهب أمير سعودي إلى القاهرة، وفي إحدى الليالي ذهب مع ثلاثة من رفاقه لحضور مسرحية، وحجزوا في أول الصفوف، وحضر بعدهم أحد الباشوات المتغطرسين، وسأل عنهم مستنكرا، فقالوا له إنه أمير، فصاح بهم: «بلا أمير بلا قرف، دا أمير على أربع (معيز)».

(ودارت الأيام) مثلما تقول أم كلثوم، وإذا بحفيد ذلك الباشا المتغطرس يبحث له عن كفيل سعودي ليعمل كمحاسب في مؤسسة صغيرة بالرياض.

إن هذه الحادثة درس بليغ لمن أراد أن يشكر ربه ويحافظ على (النعمة) بالعقل والتواضع والعمل.

فاعتبروا يا أولى الألباب - هذا إذا كان لديكم ألباب.

[email protected]