بين حرية الاختيار وعبودية القوانين

TT

بعد نجاح حملات الرفق بالحيوان في إقناع برلمانات أوروبا بتجريم صيد الحيوانات البرية، أناشد القراء تصور سيناريو امتداد هذا النجاح بإقناع البرلمان الأوروبي بإصدار تشريعات تمنع ذبح الحيوانات والطيور في المذابح الحلال والكوشير (حسب الشريعتين الإسلامية واليهودية)، لأنها لا تخدر الحيوانات قبل ذبحها كحال المذابح العادية، حيث يجنب المخدر الحيوان والطائر الشعور بآلام الذبح.

وعندها يضطر ملايين المسلمين واليهود إلى استيراد اللحوم من بلدان المذابح «الحلال»، وبإضافة الشحن والتعبئة والتبريد ورسوم الاستيراد سيصل الثمن إلى ستة أضعاف، ويحرم المسلمون من لحوم طازجة، إذ ستصل مجمدة بعد أسابيع من ذبحها.

فكرت في هذا السيناريو بسبب تعليقات على مقالي الأسبوع الماضي ورسائل يريد أصحابها تفصيل القوانين والدساتير على مقاس انحيازاتهم الآيديولوجية أو رؤيتهم المثالية العاطفية وخلطهم بين السياسة والدين والأخلاق والقانون.

نصيحتنا للرئيس المصري بطمأنة الشعب والمؤسسة العسكرية إلى أن مهام الجيش حماية مصالح بلاده، والتحذير من الانسياق وراء شعارات آيديولوجية لخوض حروب غير مصرية، أثارت ردود فعل برسائل ترفع شعار «الجيش المصري هو جيش عروبي إسلامي»، بلا تعريف قانوني أو دستوري لما يعنيه الشعار.

معظم موقعي الرسائل أسماؤهم غير مصرية، والعنوان الإلكتروني «IP address» من بلدان خليجية لا تستقطع حكوماتها الضرائب. وهنا أطرح سؤالا يعرف القراء إجابته مقدما: هل يقبل السادة المثاليون موقعو الرسائل استقطاع ربع دخولهم كضرائب تتحول لوزارة الدفاع المصرية؟ (أقل مما تحمله دافع الضرائب المصري في حروب الكولونيل ناصر العروبية).. وهل يرسلون بفلذات أكبادهم «للاستشهاد» بجانب الجنود المصريين في المعارك «العروبية الإسلامية»؟

المثالية الأخلاقية العاطفية ومحاولات تقنين الدين دائما ما تتبخر أمام نسمات الواقع اليومي بتعقيداته الاقتصادية وحاجات المعيشة. ولأكثر من 800 عام من ظهور الدولة القومية في العصور الحديثة ولكل بلد قوانينه التي تطورت وفق حاجات اقتصادية ترتدي قناعا اجتماعيا. فما تمنعه قوانين بلد، تروج إعلانات بلد آخر لاستهلاكه. ومن الغفلة التسرع بإصدار قوانين قد تغيب آليات تطبيقها أو تفوق أضرارها غدا خسائر ما نحاول إصلاحه اليوم.

كل الأبحاث الاقتصادية تدل على التناسب العكسي بين القوانين والنمو.. فكلما تناقصت قوانين ضبط السلوك الفردي وترك المجتمع للفرد حرية الاختيار انتعش الاقتصاد وازدهر، لأن التنافس في تنوع السلع والخدمات المتاحة يحتاج وفرة إنتاج تخلق الوظائف ويستمر النمو.

والخلط بين الدين والأخلاق والقوانين يكثر من الأخيرة ويعقدها بعكس القاعدة الاقتصادية للازدهار. فالأخلاق والسلوك الحسن لا يشترطان التدين. قبل 20 عاما نصب مسلمون، بـ«زبيبة» صلاة في حجم كرة الغولف، على ملايين المصريين وابتلعوا مدخراتهم في البنوك الإسلامية. وكم من «أغنوستي» agnostic (لا يتبع أديانا) يتبرع بنصف ثرواته لأعمال الخير.

فسر البعض نصيحتنا للرئيس المصري بضرورة طمأنة المستثمرين في قطاع السياحة بأنها دعوة للعري والخمور (رغم خلو المقال من الكلمتين) وطالبوا بقوانين تمنعها «لأنها لا إسلامية تهدد الأخلاق».

فالطبيب لا يحذر مريضته بأن البكيني، الذي تقضي به أغلب اليوم على الشاطئ، يخالف الشريعة أو يثير مشاعر المتدينين (رغم أنهم غير مجبرين على تصويب أبصارهم نحو صاحبة المايوه)، بل يحذرها من خطورة الإصابة بسرطان الجلد من تأثير أشعة الشمس. الطبيب نفسه يرى نتيجة تحاليل سيدة حامل فينصحها بتعريض معظم جسمها للشمس لتكوين فيتامين «د» حتى لا يصاب الجنين بالـ«استيومايشيا» (رخو العظام).

وإذا لاحظ طبيب ارتفاع نسبة الإنزيمات لخلل وظائف الكبد فإنه ينصح المريض بالكف عن الشراب، ولن يذكر تعليمات الدين «باجتناب الخمر»، فالطبيب لا يعرف ديانة مرضاه أصلا لأن السؤال خرق لقسم التعهد الطبي شرط ممارسة المهنة.

فالطبيب يقدم النصيحة وفق الحالة الطبية لا وفق معايير سلوكية (سوى أخلاق المهنة) أو الشعائر الدينية لمرضاه، فمهمته علاجهم لا وعظهم. والدين والقانون لا يحرمان التدخين، بينما يمنعه صاحب المطعم كي لا يفسد شهية الزبائن.

شرطي المرور يمنع من أفرط في الشراب من قيادة السيارة، ليس لمخالفته إرشادات الدين بل لأن قانون المرور يمنع قيادة السيارة تحت تأثير الشراب لتجنب الحوادث.

الطبيب وضابط المرور لهما مهام ضرورية للمجتمع، ليس بينها وعظ المريض أو سائق السيارة، فالوعظ مهمة رجل الدين، الذي يقدم النصيحة إذا سئل عنها، وليس فرضا على الآخرين، ولا تجوز له صياغة القوانين أو تطبيقها. فالتدخل في حياة الناس أو تعنيفهم بالقول (ناهيك عن الاعتداء عليهم بحجة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» كما حدث في السويس) جريمة يعاقب عليها القانون وتجب محاكمة مرتكبها. ولا تجد في التاريخ نبيا عنف قومه في دعوته أو حرضهم على العنف، ولم نسمع بدين يسمح لمن يدعي أنه يحميه أو ينصره بالاعتداء على الآخرين بالقول أو الفعل لأي سبب من الأسباب.

وظاهرة خلط ما هو أخلاقي بما هو ديني، والدعوة لتشريع قوانين تحدد سلوكيات الفرد، تعكس خللا في التعامل الذهني مع بديهيات الحياة، وهي ظاهرة تستحق أن يدرسها علماء النفس الجماعي (group behavioral psychologists).

الإسلام دين ليس فيه كهنوت الترتيب الهرمي. فالفرد في الإسلام يتعبد إلى الله مباشرة من دون وسيط، ويفسر دينه لنفسه بلا حاجة لاحتكار الكهنة.. فكيف ومتى حدث هذا التردي؟.. ولماذا يقبل البعض بالتخلي عن استقلاليتهم كأفراد، وعن حقهم في تفسيرهم لدينهم؟.. وكيف يقبلون تسليم مصائرهم وطريقة إدارة معيشتهم لـ«بوليس الأخلاق» أو «بوليس الدين» تحت إمرة رجال قانون «وضعي» يفرض عليهم قسرا ما يأكلون ويشربون ويلبسون وكيفية قضاء أوقات فراغهم؟.. كيف يقبلون ذوبان شخصيتهم الفردية في شمولية جماعية؟

فالفرد إذا لم يعجبه كتاب أو رسم أو عرض فني يراه غير أخلاقي أو يناقض معتقداته الدينية، فليقاطعه لأن شراء الكتاب أو مشاهدة العرض أمر اختياري وليس إجباريا.. أما السعي لتشريع قوانين رقابية ومصادرة الكتب بحجة الإساءة للأديان، فيسبب أضرارا بالغة الأثر بلا أي نفع يذكر.

فقوانين تؤدي إلى إغلاق دور نشر واستوديوهات ستقطع أرزاق أرباب أسر وتحرم الناس من المعلومات، وهذه القوانين تحتاج لبيروقراطية التطبيق، وبدورها تعطي بيروقراطية «التدين والأخلاق» نفسها حق المنح والمنع، وتخلق ميكانيزمات لحماية بقائها والتوسع في صلاحياتها بلوائح وتشريعات تكبل حرية الناس، وتبدأ عبودية تكبيل العقل ووأد الإبداع.

الأتراك مسلمون لم يقولبوا الدين في بيروقراطية القوانين، فازدهر اقتصادهم على قاعدة اجتماعية من حرية الفرد في الاختيار؛ والإيرانيون أيضا مسلمون لكن سجناء في عباءة الفقيه.