برلين.. الجيوش الفلسطينية المسرحة

TT

تميز العمل الفلسطيني في مرحلة صعود الثورة المسلحة بقيادة فتح، وخصوصا في منتصف الستينات، بتضافر مذهل بين الفلسطينيين المقيمين على أرض الوطن والفلسطينيين المنتشرين في المنافي القريبة أو البعيدة، وكان هذا التضافر بمثابة المخزون الاحتياطي الذي لا ينضب للعمل الفلسطيني بإجماله.

ولعلنا في غنى عن القول: إن اتحاد الشعب الفلسطيني وراء الثورة هو العامل الأساسي الذي حمل العالم على الاعتراف بها، وعدم التسليم بالمقولات الإسرائيلية التي تركزت حول وصفها بالظاهرة الإرهابية كعنوان فعال للتحريض عليها وإغلاق الأبواب المفضية إلى الاعتراف بها.

وإلى جانب هذه الميزة الجوهرية، فهنالك مزايا كثيرة حيوية؛ مثل اتساع دائرة التعريف بالحقوق الفلسطينية، واستقطاب الأصدقاء من كل المجتمعات والأطياف الفكرية والسياسية، إضافة إلى رفد الثورة بكل ما تحتاج من دعم مادي ومعنوي وبشري، ما كرس الثورة الفلسطينية كحركة شعبية تعبر عن إرادة الملايين الفلسطينية، والملايين الأكثر الملتفة حولها والمتعاطفة معها.

كان المغتربون، خصوصا في الأميركتين وأوروبا آنذاك وغيرها من مراكز التجمع، رغم اختلاف ميولهم واجتهاداتهم، موحدين حول الحلم الذي انبثق من ليل غربتهم، فأعطوا بلا تردد، وكان اندماجهم بالحالة الثورية قد بلغ حد الإفراط، فتطوعوا للقتال، واستشهد كثير منهم وهم في السنوات الأخيرة من تحصيلهم الجامعي، وهجر الأطباء والمهندسون والعلماء فرصهم في المنافي ليلتحقوا بأجهزة ومؤسسات الثورة الناشئة، وأرسلوا الوفود من أصدقائهم ومعارفهم للتعايش مع الحالة الفلسطينية الجديدة على أرضها ومخيماتها ومعسكرات تدريبها ومدارس إعدادها الفكري والمهني، وذلك شكل في حقيقة الأمر ظاهرة عصية على التصفية والتحجيم والعزلة، فتنامت هذه الظاهرة وتكرست معها الثورة الفلسطينية كإطار وأداة وأهداف، كانت «فتح»، ومعها كل الفصائل المنضوية معها في مسار الثورة المسلحة، ترعى هذه الحالة القوية والفعالة، وتدعم أنشطتها وتدمج قدر ما تستطيع من كوادرها في تنظيمها المترامي الأطراف والمتعدد الاتجاهات، وكنت إذا ما ذهبت إلى أي بلد في العالم ترى صورة مصغرة عن الثورة الفلسطينية، جسدها فلسطينيو المنفى حيث يقيمون، وكلما نشأت إشكالات مع دولة ما، تجد العشرات ممن يملكون مؤهلات حل هذه الإشكالات مع صداقاتهم في البلدان التي يقيمون على أرضها، وبقوة دفع الفكرة والالتفاف الشعبي داخل الوطن وعلى صعيد الأمة، والدعم المقدم من الأشقاء العرب والأصدقاء، تجذرت مكانة الثورة الفلسطينية وصارت منظمة التحرير أكثر من عنوان قوي للفلسطينيين وأكثر من قيادة سياسية لحركة وطنية، بل وتجاوزت ذلك لتصبح قطبا نافذا في المعادلة العربية، ورقما معترفا به ولا غنى عن التعامل معه في المعادلة الدولية.

كان توحد الداخل مع الخارج هو الأرض الأكثر جدارة في إنتاج القوة والدعم، وظل هذا الأمر متصاعدا وفعالا إلى أن انكفأ الاهتمام الفلسطيني إلى ساحة الداخل التي تظل، على أهميتها وحيويتها وحتى قداستها، أقل كثافة بشرية وأقل مكان يحصل فيه الفلسطينيون على حرية الحركة والعمل، فهم في أول الأمر وآخره محاصرون بالاحتلال والجغرافيا غير المواتية.

كانت «أوسلو» البداية، وكان يمكن أن تكون محطة لتجديد الصلة بين الداخل والخارج، وكان يمكن أن تكون حلما مشتركا يقرب الهدف أو يسرع الوصول إليه أو حتى لبعضه المؤثر، إلا أن أعباء وهموم التجربة الوليدة على أرض الوطن أحدثت ذلك الخلل الموضوعي والمخيف في علاقة الداخل بالخارج، فأصيب من في الداخل بشعور المحاصر ومقطوع الصلة عن محيطه الفلسطيني الأوسع، وأصيب من في الخارج بإحباط عميق مرده طغيان الاهتمام بالداخل على نحو مبالغ فيه، وتآكل المؤسسات المركزية المعنية بالخارج وأولها وأكثرها خطورة منظمة التحرير التي لم تعد موجودة على خريطة الفعل لا في الداخل ولا في الخارج.

إنني وبحكم عملي السابق والوضع الحالي أكثر من الاحتكاك بفلسطينيي الخارج ومحاولة التعرف على درجة ارتباطهم بالداخل وفاعلية هذا الارتباط وتطور المزاج والوضع النفسي صعودا أو هبوطا فيما يتصل بأمر الأمل بالنجاح أو اليأس منه، وفي هذه الأيام وأنا أتخذ من برلين مكانا متاحا أرصد منه فاعلية الجالية وحقيقة ارتباطها بالوطن والمنظمة والسلطة والمشروع الوطني؛ فقد خلصت إلى ما يلي:

إن الفلسطينيين هنا فقدوا الصلة الفعالة بالمركز، ويرون الاهتمام بهم تدنى إلى درجة الصفر، وإن جيلا من الأبناء والأحفاد ابتعد كثيرا عن حاضنته الفلسطينية الفكرية والسياسية والتربوية، وإن هذا الجيل يعيش حيرة مقلقة، كلمة سرها السؤال: هل أنا فلسطيني أم ألماني.. في البيت هو فلسطيني بالمطلق من حيث التربية والعادات والتقاليد وفي المدينة، وخارج البيت هو حالة ملتبسة. البيئة كلها ألمانية، أما هو فهو إن كان يجيد اللغة ويحمل الجنسية، إلا أن النظرة إليه لا تزال تشي بأنه يعيش على هامش مجتمع آخر وتكون المصيبة مضاعفة إذا كان الولد ابن عائلة معدمة تعيش على المساعدات الخيرية أو الحد الأدنى من المعونة الحكومية المخصصة للفقراء واللاجئين، أما الذين أثبتوا جدارة في الحياة من خلال المواظبة والإبداع في شتى المجالات، فهم يعانون كذلك من استحالة الاندماج الكلي والنهائي في المجتمع الذي يعيشون فيه، بعضهم يضطر إلى هدم البناء الذي كونه بالجهد والتعلم والعصامية كي يحمي ابنته من الضياع في متاهات العادات الغريبة وغير المقبولة دينيا وتراثيا في تربيتنا المشرقية، والبعض الآخر يترك كل شيء من أجل أن يوفر لبناته زيجات أصولية غير متوفرة في ألمانيا، ذلك أن معادلة الزواج هنا تسير بشق واحد، الشاب الفلسطيني يتزوج ألمانية ولا حرج في ذلك، أما الحرج كل الحرج فهو أن تتزوج فلسطينية من شاب ألماني، وبوسعك تصور درجة المحظور حين تصادقه وهي في سن المراهقة.

كان المجتمع الفلسطيني في ألمانيا منشغلا عن هذه الهموم حين كان وعيه محتلا بفكرة الوطن والعودة إليه، ومن خلال أمل بانتصار الثورة، ذلك كي لا يجد نفسه في مرحلة ما من عمره أسير المنفى الأزلي وبلا ميناء يرسو إليه حين يضطر إلى ذلك. إن الأسئلة الخطرة دائما تظهر وتزداد حين تتعرض الفكرة المركزية إلى التشويش والغموض، وأحيانا التلاشي، والفكرة المركزية على سطح الوعي وفي أعماقه عند الفلسطينيين هي الوطن، العودة إليه أو الحياة فيه أو الشعور بأنه يستطيع الوصول إليه والاستقرار على أرض وطن حمل هويته، حتى لو لم تستخدم، أو الشعور بحرية تأسيس العلاقة مع الوطن سلبا أو إيجابا.

هنا في ألمانيا وعلى الأرجح في معظم، إن لم أقل جميع، مواقع المنفى يشعرون بإحباط له سبب وجيه، فهم يرون الحلم الذي كون الفكرة الأساسية يبتعد، وبعضهم يراه يتلاشى، ثم يرون الواقع الذي يعيشون فيه كما لو أنه أضحى أبديا، بعضهم ممن تكونت لديه حصانة نفسية من أمراض المنفى والحنين واستحالة تحقيق الحلم في حياتهم، على الأقل، يرى أن الأمر ليس عصيا على المعالجة، ويحمل المركز (السلطة والمنظمة) مسؤولية وضع برنامج وطني عملي ومستنير لاستعادة الصلة الصحية بين الداخل الذي هو المركز، والخارج الذي هو معظم مكونات الجسد، ومن دون سياسة وطنية جدية وفعالة في هذا الاتجاه يكون الفلسطينيون بوعي أو من دون وعي قد أدخلوا أنفسهم في مرحلة تسريح جيوشهم القوية والفعالة، والاكتفاء بميليشيات محدودة العدد والفاعلية تتحرك في ممرات ضيقة، ونحو هدف أكثر ضيقا.