الشيطان في الخطاب السياسي الجديد

TT

أشعر بانزعاج شديد لما ذكره الرئيس محمد مرسي من أن الشيطان أنساه ذكر أسماء بعض البلاد وبعض أصحاب الحرف ومنهم الفنانون والإعلاميون وذلك عندما كان يخطب موجها لهم التحية، وكنت أتمنى أن يقول بأن ذلك حدث على سبيل السهو فقط، وجل من لا يسهو. لقد تناول المحللون كل زوايا ومفردات خطاباته بالشرح والتحليل، غير أنهم جميعا لم يتنبهوا لخطورة أن تكون لدى الشيطان القدرة على التحكم في ذاكرة الرئيس بشكل يؤثر في إرادته الحرة، وكان عليهم أن يفكروا جيدا في أن الأمر يتطلب إجراءات حمائية من نوع ما تمنع الشيطان من الاقتراب من الرئيس أو أحد من معاونيه ومستشاريه. فحتى لو تمكن الشيطان بالفعل من التدخل في عمل وزير التموين مثلا وجعله ينسى استيراد سلعة أو عدد من السلع التموينية الاستراتيجية، فليس له الحق في إعلان ذلك على الملأ، فربما يظن الناس أنه يتهرب أو يحاول الإفلات من مسؤوليته عن ذلك.

الشيطان له وجود حقيقي بالطبع أقرت به كل الأديان السماوية والأرضية، بل إن الملحدين يعترفون بوجوده، غير أن رجل الدولة عليه ألا يستخدم كل المفردات الخارجة على خبرة الناس الحسية ومنها على سبيل المثال الشياطين والأبالسة والملائكة. مثال آخر للنسيان، نشرت جريدة «الحرية والعدالة» أول يوليو (تموز) 2012 خبرا يقول: «إن دعوة الرئيس محمد حسني مبارك لجميع أعضاء مجلس الشعب.. إلى آخر الخبر» المقصود بالطبع الرئيس محمد مرسي، هنا سنجد كتيبة كاملة من المحررين وقعت في فخ النسيان، محرر الخبر، المراجع، المصحح، مسؤول الصفحة، سكرتير التحرير، مدير التحرير، رئيس التحرير، هؤلاء جميعا لم يهتموا بمراجعة المادة المنشورة، عمل الشيطان هنا الذي يستحيل إثباته أو نفيه هو ما نسميه (الإهمال) ومهما كانت قدرات الشيطان التي نعترف بها فمن المؤكد أن أقوى الشياطين على الأرض أو في السماء، سيعجز عن أن ينسيهم جميعا الذهاب إلى صراف الجريدة لقبض مرتباتهم أول الشهر.

إن الأسلوب (style) الذي اختاره الرئيس محمد مرسي في خطبته، هو المسؤول عن نسيانه لأسماء بعض البلاد وبعض الحِرف، من المستحيل على العقل البشري أن يقوم بتحية أهل المحافظات والبلاد وأصحاب الحرف، بغير أن ينسى بعضها. الأمر هنا لا يتطلب وجود شيطان. أعترف بالطبع أن نسيان الطيارين وتذكر سائقي التوكتوك، لا يشكل خطرا سياسيا أو اجتماعيا من أي نوع، فلا هو سيمنع الطيارين من التحليق في الجو في مواعيدهم المحددة، ولا هو سيجعل التكاتك قادرة على التحليق في الجو، أنا فقط أنبه لخطورة استخدام الكلمات عند رجل الدولة، فما هو مسموح به عند رجال الدين والكُتاب والأدباء، غير مسموح به لرجل الدولة، لأن كل كلماته المنطوقة هي أوامر وقوانين وقواعد، الناس ستتبعها أو تمشي على هديها. أما الأخطر من ذلك كله فهو أن يستعين بعض الناس بما يقوله من أجل تحقيق رغبات خاصة ليس له بها صلة، من ذلك أن يطلب بعض العاملين في الشرطة أن يطيلوا لحاهم ويقولون: إنهم يريدون أن يكون لهم لحية مثل رئيسهم. الواقع والثابت أيضا أن هؤلاء السادة طلبوا ذلك قبل الانتخابات بوقت طويل، ولكن بما أن الأيام جادت عليهم برئيس له لحية خفيفة أقرب إلى لحى بعض أساتذة الجامعة في العالم كله، فلماذا لا يطلبون هم أيضا إطالتها بالطريقة التي تحلو لهم؟ هكذا ينفتح الطريق أمام الآخرين للسير في نفس الطريق، الذي لا بد أن يتشعب بعد ذلك إلى طرقات ومسارب الله وحده يعرف خطورتها.

الإيمان بالله لا يفرض على الإنسان شكلا أو سمتا أو رسما، ولا يحتم عليه، خصوصا عندما يكون رجل دولة، أن يثبت للآخرين درجة إيمانه. إلى الأبد سيكون هناك من يؤمنون بالخرافات والغيبيات، هؤلاء بالتحديد من يجب إبعادهم عن مراكز صنع القرار في الدولة، هذا النوع من البشر كان موجودا في كل الأنظمة التي مرت على مصر من قبل، ولكن المساحة التي يتحركون عليها كانت محدودة للغاية. أيام عبد الناصر، وأثناء الاجتماعات الهامة، عندما يحتد النقاش كان أحد الموجودين المشهورين بالورع والتقوى يلتفت خلفه فجأة ويقول بصوت مرتفع: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

فيسأله عبد الناصر: بتكلم مين..؟

فيرد: أبدا.. ده سيدنا الخضر كان معدي..

ثم يكرر الشيء ذاته بعدها بدقائق زاعما أنه يرد السلام على سيدنا أبو بكر ثم عدد آخر من الصحابة، وفي نهاية الأمر قال له عبد الناصر: ما تبقى تقابلهم في حتة تانية يا حسين.. مش عارفين نشتغل.

وفي أول أيام حرب أكتوبر (تشرين الأول) قال أشهر داعية إسلامي في ذلك الوقت إنه شاهد رؤيا فيها ملائكة ترتدي ملابس بيضاء تعبر قناة السويس في مقدمة صفوف جنودنا. كان من الصعب عليه أن يرى أن الجندي المصري بتدريبه، وبسلاحه، وبرغبته في الدفاع عن أرضه، هو الذي يحارب وهو الذي يعبر القناة.

كن رجل سياسة بمرجعية دينية، كن رجل دين بمرجعية سياسية، كن ما تشاء أن تكون، غير أنك عندما تدخل بناية الدولة عليك أن تكون علمانيا كل العلمانية بالمعنى الذي ذكرته لك منذ قليل، وهو أن تتعامل مع أحداث الدنيا بكل المفردات التي تعرفها وتعترف بها خبرات الناس الحسية. الإيمان بالله سبحانه وتعالى يحتم عليك أن تتقن عملك ولا تحب أحدا أو تكره أحدا، ففي ذلك ضياع للوقت، والوقت هو أثمن ما نملكه على الأرض. ليس من مهامك أن تدخل الناس الجنة، المطلوب فقط أن تدخل أولادهم المدارس، وأن تحاسب - بقسوة - مدرسيهم عندما لا يقومون بتعليمهم بالطريقة الواجبة بهدف ابتزازهم وإرغامهم على تناول دروس خصوصية. والله، أنا أعرف أسرا فقيرة تقتطع من قوتها لدفع فلوس الدروس الخصوصية. وفي نهاية الأمر وبعد أن يتخرجوا من الجامعات، يكتشفون أنهم لم يتعلموا شيئا مطلوبا في سوق العمل. ليس المطلوب من الحكومة، أي حكومة على ظهر الأرض، تحويل الناس إلى أتقياء ورعين، بل إرغامهم على أن يكونوا مواطنين ملتزمين باحترام القانون. وبالمناسبة، البشر لا يميلون تلقائيا إلى احترام القانون، لا بد من إرغامهم على ذلك. وهؤلاء الذين قتلوا شابا في السويس لأنه يسير بصحبة فتاة، ليسوا في حاجة لمن يشرح لهم صحيح الدين، بل في حاجة لضابط شرطة ومحاكمة عاجلة على رؤوس الأشهاد، يتلقون فيها العقاب الواجب.

لست أتحدث مع رئيس الدولة أو عن رئيس الدولة، أنا أتكلم عن مئات المناصب العليا التي يجب ملؤها برجال دولة لا يربكون أنفسهم بالغيبيات أو الخرافات، رجال دولة يؤمنون بأنه حتى الشياطين عاجزة عن أن تنسيهم واجباتهم.