اكتشاف أنان... «المدهش»!!

TT

أقام يجهد أياما رويته

وفسر الماء بعد الجهد بالماء

(علي بن الذروي)

قبل أن يجف حبر «مؤتمر أصدقاء سوريا» في العاصمة باريس... نطق كوفي أنان، الوسيط الدولي – العربي لتسوية الأزمة السورية، كفرا بعدما صمت دهرا!

الإعلام الرسمي في دمشق، بالأمس، كان قد اعتبر ما خرج به المؤتمر المنعقد في باريس «انقلابا» على مقررات مؤتمر جنيف، الذي سبقه بفترة قصيرة، في تعقيب «تشبيحي» بائس على كلام وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، عن أنه لا توجد في مقررات جنيف إشارة إلى تنحي الرئيس السوري بشار الأسد. غير أن تصريح أنان، وهو الأمين العام السابق للأمم المتحدة، لصحيفة «لوموند» ينقل عبثية المجتمع الدولي في التعامل مع محنة الشعب السوري إلى درك أسفل حتى من مستوى الضعف المشين الذي تعبر عنه مواقف بان كي مون، الأمين العام الحالي للأمم المتحدة.. وتصوراته وأقواله.

ذلك أنه إذا كان تصور بان لدور فريق المراقبين الدوليين في سوريا يتلخص بـ«ملء الفراغ بمثله»، فإن دعوة أنان – تكرارا – لإشراك إيران في تسوية الأزمة السورية، تؤكد بضعة شكوك كلها غاية في السوء.

الشك الأول يتعلق بما إذا كان هناك تعامل جدي مع مجزرة متطاولة على امتداد 17 شهرا حصدت لتاريخه، على مرأى من العالم ومسمعه ومنظماته الإنسانية والسياسية الدولية، أكثر من 20 ألف قتيل موثقين بالأسماء، ناهيك من المفقودين والمصابين والمهجرين داخل سوريا والمشردين في بلاد الله الواسعة.

والشك الثاني يمس تصور «سيناريو» سياسي منطقي لمهمة أنان أصلا، لأن ما قيل ويقال يشجع أي محلل عاقل على استنتاج أن استنباطها كان عملية هروب من تحمل مسؤولية اتخاذ قرارات حاسمة.

أما الشك الثالث، وهو الأسوأ، فيتصل بالجانب الأخلاقي – أو بالأصح، انعدامه – في معالجة الملف السوري، ومن خلفه ملفات الشرق الأوسط ككل. بل إن أنان كشف بالأمس عبر تصريحه لـ«لوموند» عن الدور المحوري لإيران في أزمات المنطقة، وهو دور يستبعد كثيرون أن يكون تناميه، وتبعات هذا التنامي، من الأمور التي غفلت عنها في يوم من الأيام عواصم القرار العالمية.

إن الدور المحوري لإيران في الأزمة السورية ما كان يحتاج لـ17 شهرا من المجازر والدمار والمآسي الإنسانية والمهازل السياسية والدبلوماسية، إذ إن أي مطلع على حقيقة النظامين في طهران ودمشق يدرك القواسم المشتركة بينهما، ويعرف هوية الجهة الدافعة للمشروع الاستراتيجي للمنطقة، واستطرادا، الجهة الثالثة المسهلة له والمعطلة لأي إجراء قد يشكل عائقا أمام تنفيذه.

أنان على حق في نقطة مهمة. نعم إيران هي اليوم، كما على الأقل منذ نحو 11 سنة، المحرك المباشر لسياسة دمشق.

إيران هي راعي النظام السوري ومحركه، بينما يشكل هذا النظام قناة الاتصال المموهة لطهران مع تل أبيب. وهذه الحقيقة كما أحسب معلومة في كل العواصم الكبرى، وعلى رأسها واشنطن. ولعل من الإيجابيات القليلة التي سجلتها تحركات الأسبوعين الأخيرين أن كل الأطراف كشفت أوراقها على الطاولة.

ما عاد أحد قادرا على خداع أحد. وحتما، ما عاد بمقدور أحد مواصلة خداع الشعب السوري.

ولنبدأ بمعسكر موسكو – بكين، الذي تصرف لأول مرة بالحد الأدنى من الأخلاق بدلا من النفاق عندما قاطع مؤتمرا يحمل اسم «أصدقاء سوريا». والقصد هنا أن موسكو وبكين أثبتتا منذ أول «فيتو» مزدوج أنهما «عدوان» لسوريا ولشعبها، وبالتالي، كانت مشاركتهما لو شاركتا ستبدو أشبه بمزحة سمجة.

ثم ننتقل إلى بعض مناصري كفاح الشعب السوري من العرب الذين، على الرغم من حسن نيتهم وسخائهم على أبناء سوريا، أحجموا عن توجيه رسائل ذات معنى إلى موسكو وبكين. وحسنا فعلت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون عندما غمزت من قناة بعض الدول العربية التي لم تقاطع الروس والصينيين اقتصاديا، وبالتالي سمحت لهم بالاستخفاف بالغضب العربي. ومعلوم أن إحدى الدول العربية الخليجية كانت قد وقعت قبل أيام قليلة من مؤتمر «أصدقاء سوريا» في باريس على استثمارات ببضعة مليارات دولار أميركي مع الصين بالذات.

ومن ثم، لا بد من التطرق إلى هذا الموقف الأميركي نفسه. إن الوزيرة كلينتون محقة بلا شك في لفت نظر العرب إلى واجب مقاطعتهم روسيا والصين اقتصاديا عقابا لهما على مواقف حكومتيهما السلبية من معاناة السوريين، ولكن هل تتصور السيدة الوزيرة فعلا أن العرب في موقع قوي يتيح لهم معاقبة الدول الكبرى على استخفافها بمعاناة شعوبهم؟ هل ساور الوزيرة كلينتون أو أيا من الساسة الأميركيين القلق من رد فعل عربي كذلك تنصح به... عندما تجاهلت واشنطن عشرات، بل مئات المرات، معاناة العرب - وبالأخص الفلسطينيين - من استمرار سياسة العدوان والاستيطان والتوسع الإسرائيلية بدعم أميركي مباشر؟ الحقيقة المرة أن الاستخفاف الأميركي بالحقوق العربية، ومنه استمرار تغطية واشنطن التوسع الاستيطاني الإسرائيلي، هو ما جرأ حكام روسيا والصين وإيران على العرب، وطمأنهم إلى أن أي استخفاف بالعرب لن يؤدي إلى رد فعل عقابي.

أمر آخر يستحق الإشارة إليه وتوكيده، هو أن موسكو وبكين على الرغم من لا أخلاقية سياستهما تجاه الشعب السوري، فإنهما وفق حساباتهما السياسية الاستراتيجية لا تعتبران أنهما تخوضان حربا ضده، بل تخوضان حربا إقليمية في مكان حساس من العالم ضد واشنطن؛ إذ إن الشعوب في حسابات القوى الكبرى لا تعني شيئا على رقعة الشطرنج العالمية. وهذه النقطة، بالذات، كان من المفروض أن تدفع واشنطن إلى موقف حازم ورادع إزاء ما يفعله نظام دمشق بشعبه، بدلا من التلطي خلف صلف الروس والصينيين... ورمي المسؤولية عليهم.

وأخيرا، نصل إلى إيران. حكام طهران، مثل حكام موسكو وبكين، وواشنطن أيضا، يلعبون لعبتهم القاتلة في الشرق الأوسط على حساب العرب ومصالحهم وكياناتهم. ولكن حتى هنا ما عاد بمقدور أحد خداع أحد...

في لبنان، مثلا، نجد أن أتباع طهران مرتبطون بعلاقة تحالفية ممتازة مع أدوات تل أبيب و«شبيحة» دمشق – فرع لبنان. والتفاهم على الساحة اللبنانية – حيث يهيمن سلاح حزب الله – كامل والتحالف قوي... في وجه الفريق اللبناني الاستقلالي الساعي إلى بناء الدولة وترسيخ الأمن وإقامة نظام ديمقراطي تعددي يتسع للجميع. ولا تنفي هذه الحقيقة طفرة المزايدة الطائفية المسيحية التي اعتمدها التيار العوني أخيرا في موضوع تثبيت المياومين من موظفي مؤسسة كهرباء لبنان.

الوضع السياسي والأمني في لبنان، الذي يظل الساحة المفتوحة في منطقة الشرق الأوسط، يفضح الكثير.. الكثير مما يموه عليه مخططو «التعايش الضمني» بين العدوين الإقليمين الظاهرين إيران وإسرائيل. وحتى إشعار آخر، لا يمكن قراءة مسلسل الاغتيالات ومحاولات الاغتيال وتفجير الطوائف من الداخل... التي استهدفت وتستهدف في لبنان معسكرا واحدا، هو معسكر الساعين إلى بناء الدولة في لبنان، إلا في إطار الرسائل الإقليمية المتبادلة... إما حول ثمن الإبقاء على نظام دمشق ضد إرادة شعبه، أو الثمن المطلوب للبدائل المقبولة.