مجرد انطباعات

TT

هل كان طه حسين رجلا واحدا؟ من كان هذا الفتى الأعمى الذي يبحر في علوم الأزهر ثم في آداب السوربون ثم يمخر في عباب البحث ثم ينصرف إلى التأليف في الفكر والشعر والأدب والرواية؟ هل كان مخلوقا واحدا، لا يتعب ولا يمل، ولا يشعر باليأس والإعاقة ولا حتى بالخوف؟ أم لعله كان يخاف ولم يحب أن يزعج خواطرنا بذلك؟

كلما تأملت في لغته وثرائه وجهده، أتفهم المجانين الذين لم يصدقوا أنه كان بصيرا، وأنه كان يدعي ذلك. ثمة غرابة ترافق حياة الرواد الكبار. بيتهوفن وضع أجمل المقطوعات الموسيقية في الأرض بعدما فقد حاسة السمع. ولم أكن اعرف إلا مؤخرا أن كاتبي الأميركي المفضل، جيمس نوربر، فقد نظره إلا قليله.

عندما أعلنت شركة «كانون» إفلاسها قبل أشهر، حاولت أن أعرف شيئا عن تاريخ الصورة الفوتوغرافية ونهاية عصر الكاميرا كما عرفناها. ذهلت عندما اكتشفت أن أهم ما حققه ظهور الكاميرا هو ظهور حركة الرسم الانطباعي. دخل كبير شعراء فرنسا شارل بودلير معرضا للصور الفوتوغرافية وخرج غاضبا يقول ما هذا الهراء، ماذا حدث للريشة واللوحة والألوان.

سمع النداء عدد من فناني فرنسا الشبان. تحدوا الكاميرا بألوان الانطباع. رسموا ما لم تستطع الكاميرا ضمه إلى الصورة. وعندما رسم كلود مونيه لوحة عن شروق الشمس سماها «انطباع»، ولد أبهى عصور الرسم، عصر الانطباعيين. لكن مونيه بدأ يفقد نظره. وكان رد الفعل المزيد من الإبداع. وعانى من العلة نفسها الانطباعي الآخر، فان غوخ، الذي حمله فقره على شرب الكاز، غير مدرك أن لوحاته سوف تساوي ذات يوم ثروة بمئات الملايين. وأصيب إدغار ديغا بالعلة نفسها، أما رودان، أشهر نحاتي فرنسا عبر العصور، فأصيب بداء المفاصل المعيق.

عندما بدأنا السفر إلى جنوب فرنسا بالسيارة قبل ثلاثين عاما، استوقفتنا مرة لوحة على الطريق كتب عليها: «مدينة ارل. بلاد تفاحة سيزان». تلك هي التفاحة التي اعتل نظره قبل أن ينتهي من رسمها، فحمل اللوحة معه هاتفا «سوف أدهش بها باريس». لكنه أدهش بها عصور الفن المعاصر. ومعها ظهرت مرحلة ما بعد الانطباعية.

كل ذلك في حرب رومانسية ضد الحداثة وآلة التصوير التي بدأ في اختراعها رسام تجاري فرنسي مل تزوير اللوحات المشهورة. عام 1968 جاء قريب من الولايات المتحدة معه آلة «بولارويد» تلتقط الصورة وتظهرها في لحظة واحدة. اعتقدنا أن ذلك سوف يكون نهاية التصوير الآلي الحديث. لكنه كان بدايته. ولا نعرف أي بداية هي الآن في عالم الرسم وأي عصر. لكن الرسم العربي في ازدهار لم يعرفه من قبل. ولعل أهمه في العراق وسوريا. وعندنا في لبنان سرب من المعاصرين البارزين، أقربهم إلى نفسي، حسين ماضي وحسن الجوني، على اختلاف الأسلوب.