رقابة القطاع المصرفي وليس تنظيمه

TT

حتى في عالم لا تنقطع فيه العواصف والاضطرابات، تظل هناك دوما مناسبات سارة. ففي الأسبوع الماضي، دعيت لحضور حفل العشاء السنوي الذي أقامته «غرفة التجارة العربية - البريطانية» في فندق «هيلتون» بشارع «بارك لين» وسط لندن، لإحياء الذكرى رقم 35 لتأسيسها. وكانت ضيفة الشرف في هذا الحفل هي البارونة كاثرين أشتون، الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، التي ألقت كذلك الكلمة الرئيسية، كما حضر الحفل لفيف من السفراء من البلدان العربية وغير العربية على حد سواء. ومن واجبي أن أتوجه بالشكر إلى مسؤولي الغرفة على كل هذا النجاح الكبير الذي شهده الحفل وهذه الأمسية الرائعة، وأخص بالذكر صديقتي رئيسة مجلس إدارة الغرفة، البارونة ليز سيمونز، فقد قامت الغرفة بعمل رائع حقا.

كان الحدث الأهم هذا الأسبوع هو فضيحة مصرف «باركليز» وسعر الفائدة بين بنوك لندن، «ليبور»، حيث تم تغريم المصرف 290 مليون جنيه إسترليني الأسبوع الماضي بعد ثبوت أن بعض المتعاملين في المشتقات به حاولوا التلاعب في هذا السعر المعياري. وهذه الفضيحة ليست بالجديدة، ومن المفيد إلقاء نظرة على خلفية الموضوع. تعود أحداث هذه الواقعة إلى الفترة ما بين يناير (كانون الثاني) 2005 ويونيو (حزيران) 2009. وفي يوم 16 أبريل (نيسان) 2008، قام أحد كبار مديري الخزينة في مصرف «باركليز» بإخطار «جمعية المصرفيين البريطانيين» أثناء مكالمة هاتفية بأن مصرفه لم يكن يقدم بيانات وتقارير دقيقة.

وقد سرني أن أعلم، أثناء كتابتي لهذه المقالة، أن «مكتب مكافحة جرائم الاحتيال الخطيرة» البريطاني قد أكد أنه فتح باب التحقيق رسميا في هذه الواقعة، وربما تقود هذه القضية إلى توجيه اتهامات جنائية ضد المتورطين فيها. وقد أعرب كبير أمناء وزارة الخزانة البريطانية، داني ألكسندر، عن سعادته بهذا القرار (وكذلك أنا)، وقال: «أريد من مكتب مكافحة جرائم الاحتيال الخطيرة أن يتتبع الأدلة حيثما ذهبت، وأن يرفع دعاوى مقاضاة إن أمكنه ذلك».

وفي الماضي، كان الرومان ينظمون عروضا داخل المدرجات الرومانية يتم فيها إلقاء المسيحيين إلى الأسود، التي كانت تلتهمهم وسط صيحات وابتهاج العامة. والمثال المعاصر لذلك تنظمه الحكومة من أجل لفت الأنظار بعيدا عن الاقتصاد، عن طريق تقديم شخصيات بارزة إلى «اللجنة البرلمانية لشؤون الخزانة». وهذا الأسبوع، كان الضحية هو بوب دايموند من مصرف «باركليز».

وقد دافع دايموند عن نفسه مؤكدا أنه ومجلس إدارته لم يكونوا على علم بما فعله المتعاملون في المشتقات، الذين كان عددهم صغيرا نسبيا، وأنهم حينما علموا بذلك أجروا تحقيقا تكلف 100 مليون جنيه إسترليني واتخذوا الإجراء التأديبي المناسب آنذاك. وبالتالي، فقد كان هذا قصورا في الإشراف والرقابة، وليس في التنظيم.

ومضمون ما قاله الرجل هو أن هناك فشلا في التدقيق الداخلي، وفشلا في مراقبة مدى التزام الموظفين، وفشلا في إدارة المخاطر، لأن مخاطرة كبيرة كهذه لم يتم تصعيدها إلى مجلس الإدارة، وهو أمر مروع إلى أقصى حد، لكنه لا يدل على أن المصرف منهار من داخله، وعلينا ألا نقفز إلى الاستنتاجات من دون الاطلاع على جميع الحقائق - والكثير من هذه الحقائق ما زال غير متاح.

لكن الجريمة هي الجريمة، إذ من السهل مقاضاة مجرمي الشوارع، مثل أي شخص يبعثر القمامة في الشارع أو يسرق محلا تجاريا، ولكن من الصعب مقاضاة نوعيات معينة من «جرائم ذوي الياقات البيضاء» (white-collar crime)، ولطالما عانت السلطات في جميع أنحاء العالم مع هذه النوعية بالذات. وأي مشكلات سابقة في التنظيم ينبغي ألا يلقى عليها اللوم في الافتقار إلى المستوى الملائم من الإشراف والرقابة، ذلك أن الرقابة تشمل ثلاثة عناصر محتملة، وهي السياسات والقواعد الخاصة بمرونة الشركات (وتغطي جوانب مثل رأس المال والسيولة والقروض)، والتقييمات والتدخلات الرقابية، والسياسات والآليات التي تعزز حل المشكلات.

وتعد جرائم ذوي الياقات البيضاء جرائم بعيدة عن العنف ذات دافع مالي، حيث يكون الهدف من ارتكابها هو كسب الأموال بطريقة غير مشروعة. وقد ظهر هذا المصطلح لأول مرة في عام 1939 على يد إدوين ساذرلاند، الذي عرف تلك النوعية من الجرائم بأنها «جريمة يرتكبها شخص يتمتع بالاحترام وبمكانة اجتماعية مرموقة بحكم منصبه». وذكر ساذرلاند أن المجرمين ذوي الياقات البيضاء تكون لديهم أسباب ودوافع مختلفة عن مجرمي الشوارع العاديين. وبعض الناس لديهم فكرة خاطئة بأن جرائم ذوي الياقات البيضاء ليست مهمة، لأنه لا يصاب فيها أحد، لكن هذا غير صحيح، فهي تزيد من تكاليف أنشطتنا التجارية كلها.

وفي الولايات المتحدة، تم تشديد العقوبات على جرائم ذوي الياقات البيضاء بعد فضيحة جيفرسي سكيلينغ وشركة «إنرون»، فهؤلاء المجرمون يستغلون الثقة التي وضعت فيهم، وحينما يساء استخدام هذه الثقة، فلا بد أن تكون العقوبات قاسية إلى الحد المناسب.

ويجد المشرعون في كثير من البلدان صعوبة كبيرة في التعامل مع هذه الجرائم، وتبين المناقشات التي دارت داخل البرلمان البريطاني الأسبوع الماضي مدى صعوبة النجاح في هذا الأمر، فالساسة والشعب يريدون علاجا سريعا، لكن هذا يتطلب أساليب متقدمة وتشريعات محكمة للغاية. ومع ذلك، فمن الضروري أن تكون هناك ثقافة امتثال والتزام قوية لدى جميع المؤسسات إذا أريد لهذه التشريعات أن تنجح، والالتزام يبدأ من القمة، فهذه التشريعات ستكون أكثر فعالية في ظل ثقافة مؤسسية تؤكد على معايير الصدق والنزاهة ويقدم مجلس الإدارة والإدارة العليا فيها المثل والقدوة. ورغم أن التركيز ينصب حاليا على المصارف، فإن الأمر له علاقة بالأخلاقيات وبالإطار الفكري للمجتمع بشكل عام، حيث ظهرت حالات كثيرة جدا من ضعف الأخلاقيات التجارية في كثير من القطاعات، وليس في بعض جوانب القطاع المصرفي فحسب، خلال السنوات القليلة الماضية. والقطاع المصرفي ليس فاسدا بطبعه، ولكن كما هو الحال في أي قطاع تجاري، فإن قلة قليلة من المصرفيين هي كذلك.

إذن، فلماذا يصعب إلى هذا الحد التعامل مع الأمر بحكمة؟ السبب الرئيسي لذلك هو ما ينطوي عليه الأمر من المخاطرة والتعقيد. وقد تبادلت الأفكار في هذا الشأن مع الكثيرين، ومنهم وارين بارك، وهو محاسب لديه خبرة في التدقيق الداخلي، كما أنه ممتاز في إثارة بعض النقاط المعقدة للغاية بطريقة بليغة وموجزة. وقد عقد مؤخرا مقارنة بين عرضين تقديميين أثناء ورشة عمل نظمها «معهد إدارة المخاطر» حول التقدير الكمي للمخاطر، الأول ألقاه دكتور أميركي متخصص في المجال النووي ويرأس قسم إدارة المخاطر في «سيلافيلد»، وهي محطة لإعادة معالجة المواد النووية في إنجلترا، والثاني ألقاه دكتور آخر متخصص هذه المرة في الأبحاث والإحصاء لدى شركة استشارية دولية تعمل في مجال إجراء اختبارات التحمل لقياس مدى قدرة المصارف على الصمود أمام المزيد من الأحداث العالمية والاقتصادية.

وقد تحدث الخبير النووي عن دوره في متابعة إجراءات السلامة الخاصة بالمسبار الفضائي «كاسيني» الذي تم إرساله إلى كوكب المشتري، ويتضمن المشروع إطلاق قمر صناعي يعمل جزئيا بالبلوتونيوم على متن صاروخ لديه نسبة فشل تبلغ 1 إلى 3 (إذ سبق له أن انفجر أثناء إحدى عمليات الإطلاق). وسوف ينطلق هذا القمر الصناعي أولا إلى كوكب الزهرة، حيث سيعتمد على قوة جاذبية الكوكب لزيادة سرعته، ثم سيعود مباشرة باتجاه الأرض - مع وجود خطر يتعلق بدخول الغلاف الجوي من جديد - كي يكتسب مزيدا من السرعة قبل أن يغادر مداره متوجها إلى كوكب المشتري. ولا بد أن يصدق الرئيس الأميركي بنفسه على تصريح الإطلاق، وقد أثبت الدكتور في نصف ساعة أن هذا المشروع آمن، ولا شك أن معظم ما تحدث فيه كان متقدما من الناحية الفنية، ولكن نظرا إلى أن تدابير السلامة في النهاية لها طبيعة مادية فيزيائية، فمن الممكن أن يتصور المرء داخل ذهنه شيئا محسوسا وملموسا.

أما الخبير المصرفي فكان من الواضح أنه بارع وواسع الاطلاع إلى حد كبير، غير أنه من الصعب للغاية الخوض في الموضوع الذي تناوله، لأنه يدور حول النمذجة باستخدام الكومبيوتر، وقد كان الاستماع إليه أمرا صعبا للغاية، وفي النهاية كانت الاستنتاجات التي توصل إليها مجرد تأكيدات غير ملموسة. وبالتالي، فإن الشيء الوحيد الذي كان وارين مقتنعا به هو أن المصارف أصبحت تبذل جهودا أكثر من ذي قبل من أجل اختبار قدرتها على التحمل، وأنها أصبحت تستعين بالإحصاء لمساعدتها.

وربما تكون هذه مشكلة أساسية في ما يتعلق بمراقبة الامتثال والمساءلة داخل العمل المصرفي والخدمات المالية، حيث يكتنفها تعقيد غير ملموس، وليس من السهل متابعتها والاطمئنان إليها، ما لم تكن خبيرا. وبالنسبة لمعظم الناس، غير الخبراء، فإن هذا يعني أنه يجب علينا أن نثق في هذا النظام. لذا، فإن الامتثال والتنظيم لا بد أن يدفعا الأموال المطلوبة كي يحصلا على هذا المستوى من الخبرة، وهو ما لم يكن يحدث في حالة «هيئة الخدمات المالية» البريطانية.

إن فضيحة الأسبوع الخاصة بالتلاعب في سعر «ليبور» تتعلق بالإشراف وليس بالتنظيم، وعلى الجميع أن يوجهوا مزيدا من الاهتمام إلى الإشراف والرقابة، وكذلك الالتزام بالمثل والأخلاقيات في كل أنشطتنا اليومية.

* أستاذ زائر بكلية إدارة الأعمال بجامعة لندن متروبوليتان، ورئيس مجلس إدارة شركة «ألترا كابيتال».