«الشيخ» الاستراتيجي هيكل

TT

الذين صدموا من حديث «شيخ» الصحافة المصرية الناصرية، محمد حسنين هيكل، الأخير عن طبيعة المأساة السورية، ربما عليهم أن يأخذوا هيكل هذه المرة على محمل الجد!

عودنا الشيخ هيكل على الأحاديث «الاستراتيجية» ولعبة الأمم، والفراغ الإقليمي، وصراع القوى، والحرب الباردة، وتناحر المحاور، وعودنا أيضا على الأسرار الدفينة والحكايات الخزينة في أرشيفه الخطير. ففي العقدين الأخيرين، لم يعد أحد يرى أن هيكل ينتمي إلى اللحظة، وأنه أسير التفكير بطريقة الحرب الباردة، بين الدب الروسي الشيوعي، والنسر الأميركي الرأسمالي. غير أن هيكل في حديثه الأخير عن طبيعة نظرته للأزمة السورية، المنشور في «الأهرام»، وتناقلته كثير من المواقع الإخبارية، ربما كان جديرا هذه المرة بأن ينظر إليه باعتباره منتميا إلى اللحظة.

مما قاله هيكل في هذه الإطلالة الجديدة مقوما الدور المصري الحالي حول الأزمة السورية، إنه لا يتصور «أن يكون موقف مصر تجاه (سوريا) منساقا وراء مواقف آخرين، فالعلاقة بين (مصر) و(سوريا) لها خصوصية من نوع ما على طول التاريخ. ولا أتصور أن مصر يمكن لها أن تقطع اتصالاتها أو علاقاتها السياسية أو التجارية والثقافية مع سوريا مهما كان أو يكن، لأن (سوريا) هي (سوريا)، بصرف النظر عن طبائع النظام الحاكم في (دمشق)». ثم وصف ما تقوله المعارضة السورية، وجل الإعلام الدولي، وليس العربي فقط، عن طبيعة الكوارث التي تجري على الأرض السورية، بأنه من قبيل «حملة محمومة تُشَن بالمبالغة، وبالتأكيد فإن لها أصلا، لكن عملية المبالغة والتهويل أكبر من الحقائق». وأنه يخشى «حدوث فراغ استراتيجي كامل في المشرق، يمتد من شرق (العراق) إلى شاطئ المتوسط».

ويختم الشيخ هيكل نظرته الصادمة بأنه يلمح «تأثير وجود تنظيم القاعدة في (سوريا)، ولست أعرف منطق الذين سهلوا لـ(القاعدة) أن تنفذ إلى (سوريا) لكي تنسف وتقتل! أعرف أيضا أن شركة (بلاك ووتر) - الشهيرة بتاريخها الخفي والدامي - لبيع خدمات السلاح موجودة - وإن باسم جديد - حول (سوريا) وفي داخلها أيضا، وأن هناك قرابة ستة آلاف فرد يتبعون لها يوجدون على الساحة في الداخل والخارج». ثم تحدث عن أنه حتى تركيا تجري حسابات خاصة لها في الأزمة السورية، وأنها بدأت تراجع اندفاعها بينما بعض العرب مندفعون باتجاه إسقاط النظام الأسدي بحماسة، يراها هو إما ساذجة أو غير مدركة لحقائق التوازن الاستراتيجي، وطبعا هذا التوازن من اختصاص آخرين - غير خليجيين بالطبع - منهم هيكل.

حسنا، بجملة مختصرة، كل ما قاله هيكل ليس إلا ترديدا لدعايات إعلام بشار الأسد والإعلام الإيراني، وكلام سيرغي لافروف، وزير الدعاية، وليس الخارجية فقط، لدى نظام بوتين القيصري الروسي.

ليس فيه جديد، سوى بهارات ولغة وإثارة الأستاذ المعتادة، وآخرها قصة «بلاك ووتر» هذه. لا نستطيع أن نصدق أو نكذب هذه المزاعم، وعموما سبق للأستاذ هيكل أن جزم بأن جماعة صربية قومية هي من كان خلف تفجيرات 11 سبتمبر في أميركا 2001. لا يريد هيكل أن يرى أن ثمة شعبا ثائرا، وثمة افتراسا ماديا وجسديا وتهجيرا للناس وقتلا على الهوية، وثمة صورا صارخة وحية ويومية للقتل اليومي على الهوية.

لا يرى بابا عمرو وحي الخالدية في حمص، ولا الحولة ولا درعا ولا دير الزور ولا زملكا ودوما وريف حلب، ولا يرى أوضح مجزرة همجية ترتكب في القرن الحالي أمام العالم، وفي بث حي ويومي.

هذا شأنه، ولكن ما يهم هنا هو تفسير هذا الحقد المرير الذي يتملك هذا الإنسان على السعودية ودول الخليج، وهذا الاجترار من أحقاد الصراع الناصري - الفيصلي. وأتصور لو لم تكن السعودية طرفا في مساندة الشعب السوري، لربما غير الرجل موقفه أو خففه على الأقل.

الرجل أسير مرحلة الخمسينات والستينات من الصراع العربي - العربي، وهو ينظر نظرة استعلائية مقيتة للسعودية، ويرفض بشكل عبثي أي دور لها في المنطقة، رغم أنها لا تطلبه، وليتها تطلبه فعلا! وهو كما كرر مرارا لا يرى بين إيران ومصر إلا فراغا عدما، ربما فيه واحة دمشق، لكن المنطقة في نظره ليست إلا مصر وإيران وربما تركيا، في رؤية أين منها رؤية عتاة الصهاينة والمستشرقين، والغريب أن هذا يتم باسم العروبة والتاريخ الإسلامي الحضاري!

أهم جملة في تجليات الشيخ هيكل الأخيرة هذه، وهي التي أعتقد أنه أصاب فيها المضمر في طبيعة المقاربة الدولية للأزمة السورية، هي ما استعاده من ذكرياته الناصرية حينما نقل عن الزعيم الراحل عبد الناصر: «المهم أن تبقى سوريا».

لا ريب في أن المهم أن تبقى سوريا، ومن يجادل أو يتوقف عند هذه الحقيقة البدهية؟! لكن في التفاصيل يكمن الشيطان كما يقال، أي سوريا يعني هيكل هنا؟ أي سوريا يرى؟ أي سوريا يريد أن تبقى؟

إنه يريد سوريا التي يعرفها مع حافظ وبشار الأسد، التي تؤدي الدور الإقليمي الخارجي المطلوب منها، بصرف النظر عن سحق وقتل النظام للناس بشكل طقسي غرائزي. هو يريد سوريا، التي يريدها أن تبقى بوتين ولافروف، بطريقة ما، ويريدها خامنئي وحسن نصر الله، بطريقتهم الخاصة أيضا. بل أزيد من ذلك، ربما يريد سوريا، التي يريد لها أن تبقى تؤدي هذه الوظيفة الإقليمية الغرب نفسه.

نظام الأسد هو حاجة للغرب وروسيا، حاجة خارجية، تؤدي وظيفة إقليمية، تحفظ الحد الأدنى من السلام مع إسرائيل، مع بعض المفرقعات الصوتية، وتضمن حصار الدور العربي السني الحقيقي في حدود معينة. هم - أي روسيا والغرب - يتفاوضون على رحيل «الموظف» بشار الأسد، وليس وظيفة نظام بشار الأسد. التفاوض هو على الموظف وليس الوظيفة!

سبق في مارس (آذار) الماضي أن صرح لافروف نفسه بجوهر النظرة الروسية والغربية المشتركة تجاه الأزمة السورية، جوهر النظرة وليس قشور المفاوضات والمؤتمرات، حيث تحدث إلى إذاعة «كوميرسانت - إف إم» الروسية، ونشر الحديث موقع «روسيا اليوم»، قائلا في جواب له على محاوره: «أنت قلت إن موقفنا من سوريا يختلف عما يفكرون فيه بالغرب مثلا. وأنت تعرف بالذات أنهم يفكرون هناك بشكل لا يختلف أبدا عما نورده في موقفنا. هناك يفكرون بالأسلوب ذاته بدقة تماما. والاختلاف هائل بين ما يناقشونه بهدوء في سكون المكاتب وهيئات الأركان العامة، وما يقال علنا في العواصم ذاتها».

وكان الموقف، أو «جوهر» الموقف الذي يقصده لافروف بأنه محل اتفاق روسي غربي حول الأزمة السورية، هو كما قال: «إنهم يدركون هناك كل الإدراك أنه منذ أبريل (نيسان) الماضي حين نشرت لأول مرة الأنباء حول ظهور مسلحين في صفوف المتظاهرين في سوريا، الذين يستفزون السلطات لإبداء رد فعل لا يتناسب مع الحدث».. أي اعتماد رواية النظام السوري تماما للحدث حول «القاعدة» والسلاح والعصابات.. إلخ.

لاحظ أن الأزمة السورية لم يدخل على مسارها السلاح لدى المتظاهرين إلا بعد مرور أكثر من 5 أشهر من الاحتجاج السلمي والقمع الدموي المتواصل، لكن لافروف، ومعه الشيخ هيكل لا يريدان حسبان هذه المدة من عداد الأيام والليالي.

لماذا تخاذلت أميركا والاتحاد الأوروبي عن دعم المعارضة السورية بالدعم السياسي والقانوني الصريح، وعن الدعم بالسلاح والاحتضان، أو على الأقل فرض مناطق عازلة في سوريا لتسهيل انهيار النظام وبقاء الدولة السورية، مع رحيل الأسد وزمرته؟! هذا أمر يحتاج إلى وقفة أخرى، تتجاوز أحاديث المجاملات والمؤتمرات. ليس هذا محلها الآن.

كلام هيكل الأخير يجعل المرء يشبع يقينا أن نظام الأسد زائل لا محالة، إذا كان من يقدم له النصح والحكمة الاستراتيجية، هو من قدمها لعبد الناصر وصدام من قبل..

[email protected]