لم نتذكر ولم نتعلم!

TT

قيل في التاريخ الأوروبي، والفرنسي خصوصا، إن أسرة البوربون عندما عادت إلى الحكم بعد انحسار الموجة الأولى من الثورة الفرنسية، لم تتعلم شيئا ولم تتذكر شيئا من الماضي وأحداثه، عادت لسيرتها الأولى وارتكبت نفس الأخطاء التي أدت في الأصل إلى الثورة ضدها، وبعد أربعة وثلاثين عاما من الحكم فقدت من جديد - وهذه المرة إلى الأبد - حكم فرنسا في وسط القرن التاسع عشر. ولدي إحساس، أرجو أن يخيب، أن يكرر ورثة ثورات الربيع ما فعلته أسرة البوربون، مع اختلاف الزمن والظروف، إلا أن التاريخ يكاد يتكرر ولكنه يتكرر في أزمان أقصر وبشكل مضحك.

كيف؟ لدي مثالان معبران عما أريد شرحه، ولكنهما ليسا الاستثناء.

أما المثال الأول: فقد تعلم الليبيون في مدارسهم ومن إعلامهم وخطب زعمائهم، خصوصا العبقري معمر القذافي، أن من «تحزب خان»، وكتبت تلك العبارة على الجدران وعممت على السفارات وظهرت يوميا في وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة، ودبجت لها مقالات كبار الكتاب فلسفة وشرحا، واستمر ذلك لمدة أربعين عاما، قضى فيها جيل وجاء جيل آخر، ومع مرور كل تلك السنوات والوقت الطويل، ما إن أتيحت الفرصة للشعب الليبي أن يكون حر نفسه، حتى تحزب تحت نحو ثلاثمائة وخمسين راية من الأحزاب الصغيرة والكبيرة، اليسارية واليمينية، الشاملة والمناطقية على السواء، وخاض بالأمس تجربة لم «يعهدها» جيل كامل بنجاح وفرح. يعني هذا الأمر أن هناك حقائق ثابتة هي من صلب الاجتماع الإنساني في الزمن القديم؛ وخصوصا في هذا الزمن الذي تتواصل فيه الشعوب وتتصل الأفكار، لا يمكن وتحت أي ضغط أو هوس أن تخفى أو تكنس تحت سجاد الشعارات، إنها التعددية والتنوع والاختلاف في الاجتهاد، في كل النشاط الإنساني.

أما المثال الثاني: من جهة أخرى، فقد بقيت جماعة الإخوان المسلمين في مصر لستين عاما على الأقل هي (الجماعة المحظورة) نصف قيادتها خلف القضبان وحولها عيون الوشاة والمتربصين، وبعد تلك السنوات الطوال والسجون والمعتقلات والحملات الإعلامية التي وصلت إلى حد الفجور، ما إن سقط نظام العسكر أو بقاياه حتى قامت من الرماد ليصل ممثلها إلى كرسي الحكم ورئاسة الجمهورية ولكن بأغلبية بسيطة يرتضيها العمل الديمقراطي، ولكنها تؤكد من جديد طبيعة بشرية أخرى اسمها التعددية.

ماذا يعني هذان المثالان، وقد تكرر مثلهما كما نعرف في تونس، وقد يتكرر في أماكن أخرى؟ يعني بوضوح لمن له عقل وفكر نير، أن التهميش للآخر ومحاولة طمس تطلعاته التي يشاهد مثلها حوله في هذا العالم المتسع؛ وهي تعددية الاجتهاد وتنوع المصالح، سوف تسقط وإن طال مكوثها، وسوف تنهار وإن استخدم «القانون» و«الإعلام» و«السجون» وحتى «المنافي»، كل ذلك قد يؤخر فقط سقوط من استولى على السلطة وتفرد بها، ولكن لن تجزم سياسات تهميش الآخر باستمراره، إذا كان البوربون سقطوا في أربعة وثلاثين عاما، والمكارثية في الولايات المتحدة انحسرت آثارها في بضع سنين؛ لأنها أرادت أن تهمش الآخر وتقضي على التعددية والتنوع، فإن استمرار تهميش الآخر في الوطن وعزله بالاتكاء على مقولات - مهما كانت جاذبة - لها نكهة دينية أو قومية أو آيديولوجية في النهاية سوف تؤدي إلى خسران وبروز الصراع من جديد.

بعض ما ظهر حتى الآن في عدد من دول الربيع ينبئ بعودة الفكر البوربوني من جديد متبنى من قبل من وصل إلى السلطة في تلك البقاع، وهو الميل إلى تهميش الآخر بقسوة وبغلظة تذكر الجميع بنفس الأدوات التي استخدمتها الأنظمة السابقة في دحر مخالفيها، ما اختلف هو الشعار الذي يجري تحته العزل والتهميش، من شعار وطني - إن صح التعبير - إلى شعار ديني؛ مرة أخرى إن صح التعبير. عنوان هذا الأمر هو الفشل في إدارة التنوع، والجزم بأن الرأي الواحد هو السائد، بالضبط كما قال الرئيس السابق حسني مبارك عندما نبئ بأن المعارضة غير راضية على نتائج الانتخابات في عام 2010 قال قولا أظنه سوف يبقى كثيرا في تاريخ العرب «خليهم يتسلوا» استخفافا أدى في النهاية إلى ما نعرفه.

فلكل فعل رد فعل، من هنا فإن الدعوات في ليبيا للحكم المحلي؛ الذي قد يقرب من الانفصال، يرسل جرس إنذار يمكن أن يفسر بأن القادم ليس ما تمناه الشعب الليبي؛ وهو إدارة عاقلة للاختلاف، كما أن الدعوة إلى إشهار حزب في مصر باسم «الإخوان المسيحيين» أيضا يرسل برسالة واضحة تشي بالخوف، بل بالرعب من القادم المستند إلى التهميش والعزل في بلد لم تستطع كل القوى الفرعونية أن تطمس المخالف فيه، ومرة أخرى يقع الحاكم في مغبة الفشل في إدارة الاختلاف، وأحداث الماضي القريب شاخصة.

القضية ليست سهلة كما نكتب، فمن جهة هناك شعارات أطلقت وأمان تشبث فيها المناضلون أيام الرعب والخوف، يراد لها أن تتحقق، وهناك قوى ترغب في المزايدة على تلك الشعارات الفضفاضة مثل شعار «تطبيق الشريعة الإسلامية» دون شرح للعامة ما هو الفرق بين الفقه والشريعة، كما أن هناك اعتقادا استحسنه المناضلون السياسيون، وهو أن «الشعارات» يمكن أن تحقق للناس شبعا بعد جوع، وأمنا بعد خوف؛ بينما الواقع غير ذلك تماما فالشعارات لا تطعم خبزا.

هنا تتجلى معاكسة الحكمة القديمة، وهي أن البعض لا ينسى ولا يتذكر، لا ينسى الأخذ بالثأر من قوى وأشخاص كان لها مواقف سلبية تجاهه، ولا يتذكر أن ما أودى بمن سبقه هو هذا الصلف في تهميش الآخرين وعزلهم، كلتا الخطوتين تؤدي إلى الطريق الذي سلكه السابقون؛ وهو طريق موحش ومظلم وممتلئ بالمطبات. خطوات التهميش تبدأ متواضعة في بعض أفراد، ثم تزداد اتساعا حتى تنتشر خيبة الأمل لدى قطاعات واسعة من الناس، ويبدأ نخر أساس النظام الجديد.

لم يعد الحكم اليوم بالغلبة، ولم يعد تحقيق استقراره بحكم القوة ولكن - كما تبين من تاريخ البشرية - يستتب بقوة الإقناع، ولعل ما يجب الانتباه إليه هو عزل الديني عن السياسي، والتوجه إلى المشاركة بديلا عن الاستحواذ. ما تخزنه شعوب العرب أبعد من استحواذ على سلطة، وكذلك أبعد من سقوط نظام.. هو إقامة مجتمع عادل مدني حديث، المواطنة فيه هي العنوان الدائم.

آخر الكلام:

أفزعني خطاب الكراهية الذي انبعث من بعض الأوساط الإعلامية المرتبطة بمنظمات سياسية في مصر، تجاه المطالبة «بجلد» عمرو أديب في ميدان التحرير، أين نحن من قول فولتير: «قد أختلف معك في الرأي، ولكن على استعداد أن أدفع حياتي لأن تقول رأيك»؟