آلام الديمقراطية!

TT

مخطئ من يظن أن الديمقراطية تأتي لكي تحل مشاكل شعوبنا؛ وحينما قال تشرشل إن الديمقراطية أسوأ النظم السياسية ولكن لا يوجد نظام آخر أفضل منها، كان يعني أن ما تعطينا الديمقراطية إياه لا يزيد عن طريق سلمي لحل المعضلات، أما الحل ذاته فهو يتوقف على قدرة البشر على الإبداع والتوافق والاتفاق. ما يضاف في الأمر أن التوصل إلى الديمقراطية ذاتها هو طريق محفوف بآلام كثيرة، وجروح أكثر، وربما كانت الحالة الليبية قبل وبعد وأثناء انتخابات المجلس الوطني موحية بصعوبة المسألة كلها، لكن الأمثلة في التاريخ تشير إلى أننا لسنا استثناء من القاعدة العامة. فلم يحدث أن ولدت الديمقراطية بسهولة، وحينما جاءت لأول مرة في العصر الحديث في الولايات المتحدة كان الشعب الأميركي غير هاضم للمسألة كلها. وعندما هرع إلى انتخاب جورج واشنطن رئيسا للجمهورية ظن أنه ينتخب ملكا جديدا؛ لكنه كان متأكدا من أن العبيد، وحتى الأحرار من السود، لن يكون لهم حق الانتخاب. وحتى بعد الحرب الأهلية وتحرير العبيد، كان الفارق في التعليم والمستوى الاقتصادي يجعل المشاركة السياسية غير متاحة، وكانت عملية الحصول على «الحقوق الديمقراطية» تتم في كل مرة من خلال عملية جراحية سواء كانت حربا أهلية أو صراعا حول الحقوق المدنية.

أمر أساسي حدث خلال فترة العام ونصف العام الماضية منذ جاء الربيع العربي، وهو أن الشعوب العربية لم تعد تقبل الاستبداد وحكم أجهزة الأمن وكيفية تسيير الأمور من خلال المنح والمنع واحتكار السلطة الوطنية ومعها الإعلام الوطني والثروة الوطنية. هذه الحزمة من أدوات السيطرة لم تعد مقبولة، وهي مرفوضة فقط، بل إن هناك من هو على استعداد لكي يبذل حياته فداء لها. قال لي صديقي الأجنبي إن أهم ما حدث في الربيع العربي أن العرب قد حصلوا على احترام العالم لأنه صار لهم في «الحرية» نصيب. كان الذائع لدينا أن «الحرية» تعني فقط التحرر من المحتل الأجنبي، ومع استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية فإن الأمر بدا كما لو كنا لم نتحرر أو نعرف الحرية قط. وكان ذلك دافعا إلى تجاهل الحقائق المرة للاحتلال المحلي الذي راح يمارس من القهر والعدوان والتعذيب والطائفية ما يتجاوز أعمال المحتل الأجنبي. أخيرا الحرية صارت مفهوما شاملا يحوي الداخل والخارج.

هل انتهى الألم عند هذه النقطة؟ لا أظن، بل إنها تبدو في سياق الثورات العربية بداية لأنواع جديدة من الآلام، لأننا نكتشف ساعتها أن الإطاحة بالنظام الاستبدادي ليست سوى بداية يعقبها السؤال الحائر: ماذا نفعل بالحرية التي حصلنا عليها؟ وهو السؤال الذي يماثل تماما الآخر الذي طرح بعد الكفاح من أجل الاستقلال، الذي لم نعرف ما الذي نفعله به بعد أن سالت من أجله الدماء وراح على طريقه الشهداء. وكانت النتيجة هي تسليم البلاد لمن قام بقيادة المهمة، فما كان منه إلا إقامة دولة أخرى تماثل دولة الاحتلال، ومضت عقود وإذا بنا عند النقطة ذاتها التي كنا فيها. وجاء الثمن مرة أخرى فادحا، لكن الحرية التي أقبلت ما لبثت أن طرحت أسئلة كثيرة، وكانت الإجابة الديمقراطية أسهلها وأصعبها في آن واحد. كانت أسهلها لأننا نستطيع أن ننظر إلى الدول الأخرى ونقلدها في انتخاباتها ودساتيرها، وحكم الأغلبية، وانتقال السلطة، إلى آخر ما نراه في الديمقراطيات التي سبقتنا. لكن الديمقراطية عندنا لا تضع إشكالياتها المعروفة مثل نزاهة الانتخابات فقط على المحك، وإنما تضعنا أيضا في الامتحان.

الخلاف الحالي في مصر على سبيل المثال عند وضع الدستور حول ما هو معروف بالمادة الثانية، وهل يمكن الحكم بمبادئ الشريعة الإسلامية، أم بأحكام الشريعة، أم أنه يكفي القول بالشريعة وكفى. الكل يعلم أن الأولى وحدها تكفل المساحة الأكبر لكي يكون جوهر السياسة هو التشريع، والأخيرة لا تضمن إلا مباراة تنافسية في الإفتاء، ولكن من الصعب الإفتاء في أمور حساسة. وتصبح المسألة كلها أعقد ساعة حلول ديانات ومعتقدات الأقلية، ولم تكن هناك مشكلة في التسليم بحق هؤلاء من أتباع الديانات «السماوية» في اتباع ما ورد إليهم في أمورهم الشخصية، ولكن ماذا عن البهائيين؟.. وهل الشيعة داخلون في الإسلام أم أن لهم وضعا خاصا فيجوز زواج المتعة على سبيل المثال؟ وتظل المعضلة أكثر تعقيدا حين يكتشف المصريون الأحرار الآن أنهم رغم تجانسهم الكبير فإن بينهم جماعات لها تميزها الخاص من أول النوبيين إلى أهل سيناء وقبائل الصحراء الغربية.

القضية نفسها تطرح بكل قوة في ليبيا من دون ما عرف عن التجانس المصري بين الأقاليم الرئيسية الثلاثة، وهل يستطيع الليبيون تحمل آلام التحول من دولة بسيطة مركزية إلى دولة فيدرالية مركبة من دون شكوك وخوف من الانفصال. البداية كانت بتشكيل المجلس الوطني، ولجنة تأسيس الدستور، والخطير في الأمر أن الاختيارات المتعددة تجري بينما يحمل الجميع السلاح، حيث غاصت الدولة وطفت الميليشيات. وهل يمكن للديمقراطية أن تقام إلا في دولة؟ وهل يمكن أن تقام في دولة لم تعرف تقاليد ديمقراطية أو انتخابية منذ وقت طويل؟ الأمر كان ممكنا في المغرب على سبيل المثال، لأن هناك تقاليد ما في الانتخابات، والتعدد الحزبي ظل موجودا طوال الوقت؛ بل إن أقاليم المغرب المختلفة عرفت التعددية والاستقلالية والتنمية الذاتية من دون الاعتماد الدائم على الحكومة المركزية. وعندما جاء الإصلاح الدستوري كانت الأرضية جاهزة، فكان الألم، لكنه كان يمكن احتماله.

الألم في الحالة السورية معروف ولا يزال مستمرا، لكن يمكن التنبؤ الآن بأن سوريا لن تعود إلى حكم الأسد و«البعث» مرة أخرى. لكن آلام التحول تبدو بادية منذ الآن، ليس في نزعة الاختلاف الذائعة بين القوى السياسية، وإنما بين الأحرار أنفسهم، وعما إذا كان لديهم الاستعداد لتقبل الأقلية العلوية من جديد، وعلى قدم المساواة، وهل ينطبق ذلك على «الشعب الكردي» و«الشعب التركماني». الثورات والحريات ربما تكون مؤلمة، لكنها تجعل الدول تنظر في المرآة وترى حقيقتها، وهي ليست دائما باعثة على السرور. لكن ما يبعث على السعادة هو أن زوال الطغيان هو زوال للصور المزيفة، والبيروقراطيات المروجة لأوضاع مركزية نمطية تتحدث عن شعب آخر وليس الشعب الذي يعرفه الجميع في الواقع. الألم الأكبر هنا مواجهة هذا الواقع الآن وبشجاعة فائقة، وإلا يصبح الثمن المدفوع كبيرا، والألم مروعا، والثمن فادحا. الكل يعلم أن العراق استيقظ على آلام مرة روجها نظام صدام حسين؛ ومثلها يستيقظ عليه الشعب السوري الآن؛ وكان ذلك هو ما جرى في السودان وأدى إلى القسمة وانفصال الجنوب، وبقي الديكتاتور على حاله ينتظر مصيره في ربيع قادم.