المناعة «الليبية»!

TT

عكس التيار السائد لـ«الربيع العربي» الذي بدا منطقيا حين فاز إسلاميو مصر وتونس، ولم يستطع قطف أزهاره بمفردهم إسلاميو اليمن، بينما عجز الإسلام السياسي الذي يجسده الإخوان المسلمون عن اكتساح المشهد الليبي، ليس لأنهم لا يشكلون أغلبية كبيرة في الظاهرة الإسلامية التي تنقسم بين الإسلام التقليدي والسلفية العلمية الألبانية وحتى المجموعات المقبلة من خلفيات جهادية؛ بل لأسباب كثيرة جديرة بالتأمل تعود إلى مسألة «الهوية»، وطبيعة تكوين المجتمع الليبي، وخصوصية الحالة القذافية السابقة، والتدخلات السيادية، والأهم الأداء الرائع لتحالف القوى الوطنية.

والحال كما تنبئ المقولات لا قائلوها في مشهد «الثورات» أن حالة الفرز والتصنيف ليست ذات جدوى، إذا ما تأملنا المضامين وليس مجرد الشعارات المطروحة، فتصنيف «ليبرالي» و«مستنير إسلامي» ليس ذا جدوى ما لم تنتمِ إلى تجربة حزبية مؤطرة كحالة الإخوان المسلمين أو حتى باقي الأحزاب السياسية ذات التاريخ الطويل في العمل السياسي.

يمكن القول إذن إن ما يقال عن ليبرالية القوى الوطنية المتحالفة في ليبيا ذو سقف مفاهيمي، وبالتالي كممارسة أقل بكثير من طرح حزب النهضة الإسلامي في تونس الذي يكاد أو يحاول أن يبلغ الحد الأعلى لحجم التجديف السياسي المسموح به ضمن إطار «التنوير»، الذي هو بعبارة أخرى مساجلة لسقف المشهد السياسي والديني، وليس مجرد اجترار لأفكار مقولبة عادة ما يتم استدعاؤها للحديث عن الإسلام السياسي بشكل عام وكأنهم فصيل واحد، فضلا عن أن يملك «ليبراليو» ليبيا الجدد الوصول إلى «العلمانية المؤمنة» الأردوغانية.

وإذا ما صحت تلك المقاربة لزيف ثنائية «الليبرالية» و«الإسلام» في الحالة العربية والإسلامية، وأنها في كثير من تجلياتها صراع بين الإسلام السياسي ومناوئيه، وهم طوائف شتى قد يكونون أكثر تدينا كالسلفيين والمتصوفة والتكنوقراط الذين يرون في الإسلام السياسي مرضا هوياتيا أكثر من كونه تعبيرا عن ممارسة دنيوية للسياسة بمرجعية إسلامية؛ فإن من الصواب أيضا القول إن أداء الإخوان المسلمين مرهون بالنسخة الجغرافية التي تنتمي لها الجماعة؛ فإخوان اليمن الذين يمثلهم حزب الإصلاح من وجهة نظري أكثر النسخ نجاحا ودربة في الممارسة السياسية بسبب الخبرة الطويلة في التحالف مع الخصوم، وعلى رأسهم الاشتراكيون، في تجربة «اللقاء المشترك» التي تستحق الدراسة العميقة كحالة عربية متفردة للتحالف السياسي، الذي يمزج بين الشعارات الدينية والقبلية وطموحات التكنوقراط وسطوة القبيلة في بوتقة واحدة، وما يقال عن النسخة اليمنية يمكن قوله عن نسخ أخرى عربية وغير عربية؛ بل يمكن القول إن إخوان الخليج أكثر نضجا والتصاقا بالأرض والواقع من الجماعة الأم التي تعاني من الترهل والشيخوخة واستعلاء التفرد والسبق وعدم قدرتها على تجديد ذاتها بسبب سطوة الحرس القديم.

عودا إلى انتخابات «ليبيا»، الحدث الأكثر بروزا خلال الأيام الماضية حتى مع كل محاولات التجاهل من قناة «الجزيرة» التي ساهمت بشكل سلبي في إضعاف موقف «الإخوان» عبر موقفها السياسي المنحاز في الثورة وما بعدها؛ فإنه يمكن القول إن أحد أكبر أسباب ضعف «الإسلام السياسي»، ولن أقول الفشل، هو عدم معاناة المجتمع الليبي من أزمة هوية؛ فالشعب الليبي مسلم ومحافظ وليس لديه إثنيات دينية أو طائفية؛ كما أنه قد عانى على مدى أربعين عاما ليس من ديكتاتورية العقيد فقط؛ بل من شعاراته الشعبوية التي استغلت الدين تارة والقومية والعرقية والجغرافية الأفريقية فكانت أشبه بالبكتيريا التي تنتج مضادها بنفسها، حيث يفاجئك أي ليبي تلتقيه بالتوق الشديد بسبب الملاءة المالية وارتفاع نسبة التعليم بنفوره الشديد من الشعارات السياسية التي تستبطن الدين أو القومية، وبالطبع الاشتراكية بكل نسخها القذافية المضحكة.

أزمة السلاح والميليشيات والحدود المضطربة والجماعات المسلحة التي تشعر بأنها صانعة الثورة ستكون التحدي الأكبر لليبيا الغد، لكن الأهم هو أن يكف الإعلام العابر للحدود، والذي يشبه الطائرات من دون طيار الأميركية عن ضرباته الأكثر تأثيرا على السلم المجتمعي في ليبيا، فالهجوم على قانون الانتخابات من خلال تصوير مظاهرات فئوية ومناطقية على أنها مظاهرة شعبية مضادة، وتأليب الشارع على المجلس الانتقالي في قناة خاصة موجهة لليبيا وتسخيرها كل قيادات «الإخوان» للهجوم على مصطفى عبد الجليل أو التحالف الوطني، لا تقل خطورة عن أزمات الفوضى والأمن التي يواجهها الليبيون.

لا يوجد في ليبيا موقف مضاد من الدين أو حتى ظواهر اجتماعية علمانية يمكن أن يتكئ عليها الخاسرون في معركة الانتخابات، فمشروع الأسلمة لا يعدو أن يكون كما يقال بالعامية في الخليج «بيع للماء في حارة السقايين».

الأهم من هذا وذاك أن الرموز السياسية الوطنية في ليبيا بدت عاقلة في إدارة معركتها الانتخابية، فائتلاف أكثر من 150 حزبا لدعم تشكيل حكومة ائتلافية واسعة بشر بشراكة حقيقية أكثر من نسخ الديمقراطية التي يصدع المتلبلرون بها رؤوسنا على طريقة طاعة ما تمليه الصناديق «وإن جلدت ظهور المواطنين وأخذت أموالهم»، بحجة أن القبول بالنتائج هو مؤدى الديمقراطية التي أفرزت لنا تاريخيا هتلر والأحزاب اليمينية، وهي مغالطات تاريخية في المقارنة بحاجة إلى الحديث عنها لاحقا.

تحالف القوى الوطنية الذي يضم 60 حزبا في الانتخابات تحت مظلة الجمعية الوطنية التي بدت سلمية حتى الآن بعد ذوبان في حكم معمر القذافي الفرد لأكثر من 42 عاما، يقول لنا الكثير عن أهمية التحالف على المصلحة السياسية بعيدا عن الشعارات، كما أن تصريحات جبريل المشجعة والتي قال إنه لا خاسر ولا فائز في الانتخابات من قوى الشعب؛ لأن ليبيا هي من انتصرت، يدل على وعي سياسي كبير، وهو ما أردفه بنفيه أن يكون هذا التحالف هو بين العلمانيين؛ لأنه أكد على التزام التحالف بمرجعية الإسلام، وبأن الشريعة أحد المبادئ الإسلامية، مما يعني بلغة السياسة مد يد التحالف مع باقي الأطراف الفاعلة، وفي مقدمتها السلفيون والميليشيات المسلحة التي تمثلها جماعة الوطن الإسلامية بقيادة عبد الحكيم بلحاج، التي أكدت أنها ما زالت تفكر في دعوة الجمعية الوطنية للائتلاف الوطني.

الصراع على الموارد النفطية ومحاولة السيطرة على المنطقة الشرقية المصدرة هو تحد كبير للأجهزة الأمنية في ظل أزمات القبلية ومطالبات الانفصال والفيدرالية، لكنها صراعات دنيوية يمكن التعامل معها بمنطق المصالح وترتيب الأولويات للمرحلة المقبلة، بعيدا عن صراع الثنائيات وإقحام الإسلام في مرحلة ما بعد الثورات، الذي تعاني منه باقي الدول، حيث الثورات صراعات مقنعة لآيديولوجيات متكلسة بحاجة إلى ثورة فكرية، ألم يقل المثل الليبي الشعبي «اللي يحب روحه، يقعد بروحه»؟!