صفحة من أيام الشهامة

TT

يقول أصحاب المثل لولا وجود بعض الأخيار الطيبين لقلب الله الأرض وأهلك بني الإنسان على شرورهم. أضاف بعض الفقهاء فقالوا، بل ولولا وجود كل هذه الحيوانات البريئة من قطط وكلاب وضفادع وسباع الفلا ممن لم تسئ لأحد بشيء. وهذا قول حكيم يدل على مكانة الحيوان والرفق به في الدين الإسلامي.

كان يعقوب هارون خرموش تاجرا كبيرا في البصرة. لم يبرز فقط في دنيا التجارة والمال، وإنما كانت له أيضا اهتمامات أدبية وفكرية جعلته يدون مذكراته عن حياته في العراق. وقعت أجزاء منها في يدي كان منها هذه الصفحة التي تشير إلى علاقته بأحد الحمالين الشباب في متجره.

لاحظ يوما أن هذا الحمّال كان في حالة كئيبة جدا أبكته من حين لحين. سأله السيد يعقوب عما شغل باله. قال والدتي مريضة في بغداد وربما تموت دون أن أراها وتراني. قال له: «أعطيك إجازة وروح زورها وشوفها». تبين أنه لم يملك أجرة السفر في القطار. فتبرع له بذلك. ثم فكر قليلا فقال: «ولكن يجب عليك أن تأخذها لطبيب. عسى أن يجد دواء لها يشفيها من علتها». ثم أخرج محفظته وأعطاه من المال ما يكفي للسفر ومراجعة الطبيب وشراء الدواء. وليطمئن خاطره قال له: «هذي مو صدقة مني. هذا دين سدده لي في المستقبل».

سافر الحمّال الشاب إلى بغداد. وخلال غيابه اضطرت الأعمال التاجر المحسن للسفر إلى الهند، على عادة تجار البصرة في تلك الأيام. في هذه الأيام يذهبون لإيران. أعجبته الحياة في الهند فأقام فيها لسنوات طويلة استغرقت ثلاثا وثلاثين سنة. ولكن من يذوق ماء دجلة، لا بد أن الحياة ترجعه له. انتابه الحنين للعراق فعاد إلى البصرة، وأخيرا انتقل إلى بغداد، حيث أصبح مديرا لشركة «ستريك» البريطانية. بنى لنفسه بيتا جميلا مطلا على شواطئ دجلة في المحلة المعروفة بكرادة مريم. مل من الجلوس على شرفة بيته يتفرج على مياه دجلة يوم كانت دجلة تسحر الناظرين بمرآها، فخرج من البيت ليتمشى في الشارع. لم يتقدم غير خطوات قليلة حتى لمح ضابطا بكامل بزته العسكرية وسلاحه بيده يثب ويجري نحوه.

مسك الرجل أنفاسه وامتلكه الرعب. أيقن أن هذا الضابط القادم نحوه باضطراب وعصبية جاء إما ليقتله وينهب بيته ويسبي أهله، أو ليعتقله ويزج به في السجون. وقف وتسمر في مكانه. حتى إذا اقترب الضابط منه صاح به:

«أنت يعقوب بن هارون خرموش؟».

«إي نعم. أنا».

هجم الضابط عليه ليحتضنه والدموع في عينيه قائلا «ثلاث وثلاثون سنة أبحث عنك. ما تتذكرني؟ أنا ابنك عباس الحمّال! دخلت الجيش وارتقيت وصرت ضابطا. ثلاث وثلاثون سنة أدور عليك أريد أسدد لك ديني. قالوا رحت للهند، لكن أهل الخير دلوني على مكانك اليوم. ثلاث وثلاثون سنة وأنا مدين لك».

وأخرج الضابط من جيبه العشرين دينارا التي أقرضها له يعقوب خرموش قبل 33 عاما.