تقسيم فلسطين وتقسيم رام الله

TT

كان جبران تويني عام 1947 سفيرا لدى الأرجنتين وسفيرا غير مقيم لدى جارتها تشيلي. سعى العرب إلى كسب دول أميركا اللاتينية في معركة التصويت على قرار تقسيم فلسطين، فذهب مؤسس «النهار» إلى تشيلي لإلقاء خطاب حول المسألة، مخالفا نصيحة طبيبه بعدم السفر. وبينما كان يلقي خطابه انهار وفارق الحياة.

وسافر من فلسطين نفسها رجال كثيرون بإمكانات متواضعة، وانتشروا في الأمم المتحدة والعواصم. وفي المقابل كان الأميركيون واليهودية العالمية والتواطؤ السوفياتي وأوروبا يخوضون الجانب الآخر من المعركة.

كانت دول أميركا اللاتينية شديدة الأهمية للعرب، أولا بسبب عددها، وثانيا بسبب انتشار المهاجرين العرب فيها وإمكاناتهم وعلاقاتهم. لكن اليوم، بعد سبعة عقود، يروي كتاب بعنوان «السمكة التي أكلت الحوت: قصة ملك الموز الأميركي»، حكاية الرجل الذي لعب الدور الخفي في اقتراع الدول اللاتينية: المهاجر الروسي صاموئيل زاموراي!

اكتشف زاموراي أن الولايات المتحدة مغرمة بنبتة تعرفت إليها حديثا تدعى الموز. ذهب إلى أميركا الوسطى وأقام «جمهوريات» منها، وأخذ يشحنها إلى نيويورك. وزّع ثروته على أمرين: شراء حكام الجمهوريات، التي صارت تعرف بـ«جمهوريات الموز»، وعلى التبرع لإقامة إسرائيل. موّل الانقلابات والانقلابات المضادة في أميركا الجنوبية، وأثّر في القرار السياسي في أميركا الشمالية. وفيما كان المال اليهودي يحرك مواقف القارتين، لم يكن لدى العرب سوى ذوي النوايا الحسنة، مثل جبران تويني وسواه.

عندما صار المال عند العرب كانت معركة فلسطين السياسية قد بهتت أو نسيت. جميع «الثورات» العربية لم تطرح القضية الفلسطينية حتى من باب رفع العتب. أقيمت جنازة في بيروت قبل أربعين عاما لفدائي فلسطيني سار فيها مائة ألف رجل. وغاب في رام الله قبل أيام هاني الحسن، أحد كبار مؤسسي ومفكري فتح، وكأنه رجل عادي من الماضي. لم تعد «موجة» فلسطين دارجة في العالم العربي، ولم يعد أحد يخرج في ذكرى وعد بلفور. غرقت حركة القوميين العرب في مستنقع حزيران، وغرقت المقاومة الفلسطينية مع الباخرة التي غادر عليها ياسر عرفات بيروت.

تبدو بعيدة ووحيدة فلسطين الآن. ويبدو الماضي سحيقا وليس بعيدا فقط. أذكر هاني الحسن، الذي لم تربطني به الصداقة والمودات التي جمعتني بشقيقه خالد. أذكره من يوم كان غيابه أو حضوره حدثا.