دائرة اللاقرار

TT

وأعني بها.. الدائرة الفلسطينية – الإسرائيلية.. هذه الدائرة ضيقة المساحة، وواسعة التأثير في السياسات الإقليمية والدولية.. تبدو الآن ومن خلال اللاعبين الرئيسيين على حلبتها، غير قادرة موضوعيا على اتخاذ أي قرار أساسي، حتى لو كانت مقوماته النظرية متوفرة، وسأبدأ بإسرائيل.

حين فاجأ شاؤول موفاز القوى الإسرائيلية المختلفة بإعلانه الانضمام وحزبه كثير العدد في الكنيست «كاديما» إلى الائتلاف الحكومي الذي يقوده الثلاثي نتنياهو، ليبرمان وباراك، ظهر في التحليلات الأولية اجتهادان متعارضان.

الأول: يرى في هذا الانضمام فرصة قوية تتوفر فيها للحكومة الإسرائيلية قدرة على اتخاذ أكبر وأخطر القرارات من خلال وجود أغلبية كاسحة لهذا الائتلاف الجديد.

والثاني: يرى فيه محفزا لليمين الإسرائيلي على المضي قدما بسياسته المتشددة في أمر السلام مع الفلسطينيين، بما في ذلك مواصلة الاستيطان، وتواصل توليد الشروط التعجيزية التي تحول دون إقدام القيادة الفلسطينية على أي خطوة تجاه استئناف المفاوضات.

وبعد أسابيع ليست بالكثيرة على أي حال.. تبين أن هنالك قراءة ثالثة لهذا الائتلاف العددي والنوعي الكبير، مفادها أن ولادة هذا الائتلاف التكتيكي الذي أملته مصلحة مشتركة لأقطابه باستبعاد الانتخابات المبكرة، وضع إسرائيل في زاوية اللاقرار، والمؤشرات القوية الدالة على ذلك، هي تهديد موفاز بالانسحاب من الحكومة إذا ما واصل نتنياهو دعمه للمتدينين، وعدم تبنيه لـ«قانون طال» الذي يفرض عليهم الخدمة العسكرية كغيرهم من القطاعات الشعبية الإسرائيلية الأخرى.. إضافة إلى إفشال لقاء عباس موفاز قبل أن يحدث؛ حيث تكرر مشهد إفشال لقاء مماثل كان قد رتب بين عباس وبيريز... حيث قرر نتنياهو عدم منح أي من الرجلين بعض ما يمكن أن يقدماه لعباس، كإغراء للعودة إلى مائدة المفاوضات.. ولو بإطلاق سراح عدد محدود من السجناء.

وهنا يبدو جليا.. أن واقع الحكومة الإسرائيلية الائتلافي، وإن اتخذ شكلا وحدويا غير مسبوق في إسرائيل إلا أنه من داخله يمور بصراع مرير، يبلغ حد التناقض في كيفية معالجة الأوضاع الداخلية في إسرائيل.. وكيفية معالجة العلاقات مع الفلسطينيين في كل النواحي.. ذلك يعني وبصورة مباشرة أن الحكومة الإسرائيلية استقرت موضوعيا في حالة اللاقرار.

أما على الجانب الفلسطيني.. حيث يوصف عهد عباس على رأس السلطة بأنه المؤهل لبلوغ حل وسط مع الإسرائيليين بل وذهب البعض إلى القول إنه إذا لم يتم اتفاق مع عباس فلن يتم مع من سيأتي من بعده.. الحال الفلسطيني في المحصلة يشبه الحال الإسرائيلي، إلا أنه يختلف من حيث الشكل، ففي فلسطين.. هنالك حكومتان متصارعتان.

في إسرائيل - توجد حكومة واحدة.. ولكن في داخلها صراع بين أكثر من أربع حكومات.. وفي فلسطين فشل لقطبي السياسة والحكم.. في تخطي حاجز الانقسام، وبصرف النظر عن الحقن التسكينية التي كانت تعالج الأمر مؤقتا من أجل تهدئة الشارع كالإعلان عن اتفاق أو تحديد موعد تقريبي للانتخابات أو حتى التوافق على مبدأ تشكيل حكومة تسمى حكومة كفاءات برئاسة عباس، إلا أن الانقسام المتكرس، والمصالحة المستحيلة، وضعا القيادة الفلسطينية في زاوية عدم القدرة على اتخاذ أي قرار بأي اتجاه، فما يصدر عن رام الله معترض عليه بصورة تلقائية في غزة.. والعكس بالعكس.. في وضع كهذا.. يحاول كل اللاعبين على الحلبة الضيقة والملتهبة - وما أكثرهم - إدارة الوضع بما ينسجم مع مصلحة كل واحد منهم على حدة؛ حيث لا أمل ولا جدوى من التفكير في مصلحة عامة.

فالسيد موفاز في إسرائيل.. وبحكم حاجة كاديما، ذهب إلى الائتلاف، وبحكم ذات الحاجة يهدد بالانسحاب منه، وسواء بقي أم انسحب، فحالة اللاقرار في إسرائيل تظل قائمة ومسيطرة. ولا أغالي لو قلت إنه حتى لو جرت انتخابات في موعدها أو في وقت مبكر فسيظل اللاقرار في إسرائيل قائما خصوصا بشأن التسوية مع الفلسطينيين.

أما الرئيس عباس، فيواجه سلسلة من الأزمات المترابطة والمتوالدة والناجمة كلها عن الانسداد السياسي الداخلي مع حماس والأساسي مع إسرائيل.. فأي قرار يمكن اتخاذه، لتوفير أكثر من مليار دولار لتسديد القروض المتراكمة على السلطة للبنوك الوطنية المهددة بالانهيار إذا لم يتم تسديدها؟.. وأي قرار يمكن اتخاذه من شأنه فتح المسار السياسي المغلق مع إسرائيل؟.. وأي قرار يؤمن استقرارا مضمونا وراسخا على الصعيد الأمني حال انهيار كل شيء من حول المواطن والشرطي؟

هذه هي حقيقة الأزمة الإسرائيلية والفلسطينية.. إنها أزمة عدم القدرة على اتخاذ أي قرار أساسي، وأي قرار يمكن اتخاذه سيكون عرضة لعدم النفاذ، أي مجرد موقف، وحين تصل الدائرة الفلسطينية الإسرائيلية إلى هذا الوضع فلن يكون بوسع أي قوة في هذا الكون أن تفعل شيئا أكثر من إدارة أزمة بغية التخفيف من آثارها قدر الإمكان وليس أكثر.