أشجان الثقافة في العالم العربي

TT

في خطابات اليونيسكو، وفي أحاديث الباحثين في الثقافة (من حيث الصلة بين الثقافة والتنمية)، ومن الأمور المقررة - إجمالا - طرح مجموعة من الأسئلة، لا محيد عنها في حديث الثقافة والشأن الثقافي في بلاد الدنيا جميعها. كم كتابا يقرأ المواطن في السنة (في البلد موضوع الدراسة أو البحث الميداني)؟ ما مقدار الميزانية التي يعتمدها الفرد لاقتناء الكتب والمجلات والذهاب إلى المسرح وزيارة المتاحف التي تفرض رسوما على زيارتها؟ ما عدد المنشورات - سنويا - من الكتب والمجلات؟ ما عدد الكتب التي تتم ترجمتها إلى لغة أو اللغات المعتمدة في البلد موضوع البحث؟ ما أرقام المبيعات من الكتب في مختلف أصناف المعرفة والأدب (رواية، مسرحية، دراسة..)؟ ما عدد الوقفيات التي ترصد للإبداع العلمي والفني في البلد؟ الجوائز السنوية؟ المهرجانات الثقافية الكبرى وطبيعتها؟ حال الرعاية الثقافية والرعاة في البلد موضوع الدراسة؟ عدد البرامج الثقافية (في المعنى الواسع للثقافة طبعا) التي تخصص للثقافة وشؤونها في البلد موضوع البحث الميداني أو الدراسة؟ وأسئلة أخرى، كثيرة ومتنوعة، تتصل بالموضوع، مثل أعداد العاملين في الحقل الثقافي، وأعداد قاعات العروض المسرحية، وقاعات المعارض الفنية، وخريطة انتشارها في البلد، وما في هذا المعنى. أسئلة تعتبر، عند الباحثين الاجتماعيين، من المؤشرات الدالة الواجب الاحتكام إلى نتائجها قبل القول في حال الثقافة في بلد من بلدان المعمور.

يحق لنا، في معرض الحديث في الثقافة وأشجانها في العالم العربي، أن نطرح الأسئلة المذكورة أعلاه وأن نتقبل الأجوبة التي تكون عنها حسب منطق البحث والإحصاء. الحق أنني لست من الذين يجرؤون على ذلك خشية الإحباط. لعلي أعدد بعض صور السلب التي تحمل على الخجل والانكماش، فلا تبعث على التفاؤل، فأقول (على سبيل التمثيل فحسب) إن مجموع ما يصدر من كتب جديدة في كل سنة (في مجموع العالم العربي) يقل عما يصدر من الكتب في بلد صغير مثل بلجيكا يقل عدد سكانه عن مجموع أربعة أحياء من القاهرة. وأقرأ الإحصائيات المقارنة فأجد أن مجموع الكتب المنقولة إلى اللغة الإسبانية، (في الأرجنتين بمفردها، فلا أعدد إسبانيا ومعها 17 بلدا آخر من الدول الناطقة باللغة الإسبانية)، يفوق مرات ومرات عدد الترجمات من كل لغات العالم إلى اللغة العربية. أما إذ يتعلق الأمر بعدد الكتب التي يقرأها المواطن في العالم العربي - في مجموعة بشرية يفوق تعدادها 350 مليون نسمة، وأما إذ يتعلق الأمر بذكر متوسط ما يصرفه المواطن في البلدان العربية على الثقافة ومتعلقاتها - قياسا إلى ما يصرفه على اقتناء السجائر مثلا، وأما إذ يكون السؤال راجعا إلى عدد المعارض الفنية التي تمت زيارتها وبعدد المسرحيات التي تمت مشاهدتها، فإن المرء يشعر بحمرة الخجل تصبغ وجنتيه وهو يقارن مع ما تكون عليه الأجوبة في بلدان ليس بالضرورة في عداد البلدان الغنية، بل ربما كانت بمعايير المال المتداول وحده أدنى شأنا من الكثير من دول العالم العربي.

صورة الثقافة، عند الحكومات العربية، أبعد ما تكون عن الإيجابية والبهاء، على نحو ما حاولنا التعبير عن ذلك في حديثنا في الأسبوع الماضي. لسنا نريد تكرار ما ذكرناه في مجموعه، ولكننا نجمل (قصد التذكير والتنبيه معا) أن الكثير من الدول العربية لم تفرد الثقافة بقطاع حكومي مسؤول عنها، فهي لا تزال، في الكثير من الدول العربية، من ملحقات وزارة الإعلام أو التربية، وفي دول أخرى ظلت عقودا متصلة من ملحقات وزارة «الإرشاد القومي»، مما يعني أن الغرض الأساسي منها كان هو الترويج الآيديولوجي للنظام القائم. ونجمل القول فنقول إن الميزانيات السنوية، في الكثير من الدول العربية، تقل كثيرا عن الميزانية التي تعتمد لمديرية واحدة من مديريات وزارة الداخلية، وميزانية وزارة الثقافة في بلد مثل المغرب تقل كثيرا عن واحد في المائة من الميزانية السنوية للدولة المغربية، بل إن بلوغ الرقم المذكور - مع هزالته - يعتبر أملا يكون التطلع إليه.

ونجمل القول، فلا نطيل، فنقول إن مجموع الساعات التي تخصص للثقافة والشأن الثقافي في العالم العربي إجمالا لا تعدو ساعات أسبوعية، هي في المغرب، (ونحسب أن مثال المغرب في هذا الشأن يقبل التعميم على أغلب البلاد العربية)، لا تصل إلى مجموع أصابع اليد الواحدة، ليس في اليوم الواحد وإنما في مجموع ساعات الأسبوع كاملة في اليوم والليلة. وسعيا لتكميل الصورة في الأذهان، نقول إن أوقات البث التلفزيوني التي تتصل بالثقافة، بكيفية أو أخرى، يتم التطويح بها إلى الساعات المتأخرة من الليل، فحديث الثقافي - كما ذكرت في خاتمة مقالي في الأسبوع الماضي - يكون والناس نيام. وصورة الثقافة، عند القطاع الخاص هي، بكل تأكيد أكثر مما ذكرنا سوءا. أتحدث عن المغرب، مرة أخرى، فأقول إن مجموع المؤسسات التي ضمت بعض كبريات الشركات القابضة لا تتجاوز، من جهة أولى، عدد أصابع اليد الواحدة، وهي، من جهة أخرى، تنحصر انحصارا يكاد يكون تاما، في ما كان بلغة موليير وحدها.

نعم، هنالك مؤسسة من المؤسسات المشار إليها، بل هي كبراها وأهمها وأكثرها حضورا في السوق المغربية بالنظر إلى القطاعات الصناعية والتجارية التي تقوم بمراقبتها، فهي تتعلق بالحياة اليومية لملايين من المواطنين المغاربة، كانت قد بادرت إلى تأسيس سلسلة تتعلق برجالات المغرب الكبار، غير أن مجموع ما صدر منها لا يتجاوز عددا هو دون العشرة بكثير.. مع أن ما صدر عنها صادف قبولا واستحسانا، وكان موضع مساهمة في كتابته من أقلام مغربية ذات شهرة عالية!

تغدو الصورة أقل قتامة وأكثر إيجابية إذ نيمم شطر المجتمع المدني في العالم العربي. الحق أنه لولا الإسهام الإيجابي والفعال في النهوض بالعمل الثقافي من قبل منظمات وجمعيات المجتمع المدني في العالم العربي، لما كان الشأن على ما هو عليه الآن. نعم، لولا انخراط المجتمع المدني في العمل الثقافي لما كان للثقافة شأن كبير في كبريات دول المعمور، بل نحن نقول إنه يكاد ينعدم في بلد مثل الولايات المتحدة الأميركية، بيد أنني أستطرد فأقول إن الحال في الولايات المتحدة مختلف (إن لم نقل إنه مخالف) لما هو عليه في بلدان العالم الأخرى. ولكن المجتمع المدني يجد من الدولة، في مجال الثقافة، سندا قويا بل ودعما ماديا عاليا مثلما يجد الدعم ذاته، بل وأكثر منه، من قبل الشركات والمؤسسات الصناعية والتجارية الكبرى، لسبب بسيط هو أن دعم الثقافة أشكالا مختلفة من الدعم يسهم في تجميل صورة المؤسسة الصناعية والتجارية، فضلا عن كونه يخفف عنها كثيرا من أعباء الإنفاق الضريبي وما اتصل به. وبالجملة، فالثقافة ينالها نصيب غير يسير من هذا الفهم للأمور.

نحسب أن الحديث يفضي بنا إلى نتيجة واحدة، أيا اختلفت الدروب التي نسلكها: لا سبيل إلى تنمية شاملة، تطال مجالات المال والأعمال والاقتصاد عامة، إلا بجعل الثقافة بعدا ضروريا من أبعاد تلك التنمية وشرط صحة من أجل تحققها.