معالجة المرضى.. ليست بالأطباء وحدهم

TT

يخطئ بشكل بالغ الضرر، من يتوهم أن نجاح «العملية العلاجية» مسؤولية ملقاة فقط على عاتق الأطباء أو المستشفيات أو الهيئات المعنية بتقديم الرعاية الصحية، أو يتوهم أن تقييم مدى النجاح في معالجة المرضى مرتبط بصفة حصرية بمدى توفر خدمات طبية عالية الجودة في المستشفيات وتقديمها من قبل الأطباء بكفاءة عالية.. ذلك أن ثمة عوامل أخرى، لا تقل أهمية عن جهود الخدمة الطبية، لها تأثيرات بالغة العمق في نجاح «العملية العلاجية».

وللتوضيح، فإن الشفاء من الأمراض، بمعنى زوال المرض عن الجسم بشكل تام، والمعالجة الطبية هي جهود البشر في محاولات التغلب وإزالة أو تخفيف التأثيرات السلبية للأمراض على جسم الإنسان وقدراته على العيش بشكل طبيعي وبكل القوى المتوفرة في جسمه. و«العملية العلاجية» منظومة متكاملة من الجهود التي تهدف إلى الوصول بالحالة الصحية للمريض إلى بر الأمان، أي الوصول بحالة المريض الصحية إلى حالة مماثلة لأي فرد آخر يتمتع بالصحة في المجتمع.

وبعيدا عن تأثير دور الوقاية التي تهدف إلى حماية الناس أصلا من الإصابة بالأمراض، وهي التي تتطلب جهودا لا يساهم فيها الأطباء وحدهم بل أيضا آخرون في المجتمع والمدرسة والجامعة والمنزل والإعلام وغيرهم كثير.. وبعيدا كذلك عن الخوض في العوامل التي تجعل الأطباء قادرين بفاعلية عالية على تقديم المعالجة الطبية للمرضى في المستشفيات والعيادات بصفة ناجحة، وبعيدا ثالثا ورابعا وخامسا عن عناصر شتى لا مجال لعرضها في المقام الضيق للمقال، هناك سادسا عوامل تتعلق بالظروف البيئية التي يخرج إليها المريض بعد مغادرة العيادة أو المستشفى، أي البيئة التي لا يوجد الأطباء فيها بقرب مرضاهم ولا طاقة لهم في التأثير عليها بشكل يضمن توفير ظروف «صحية» لازمة لاستمرار كفاءة العملية العلاجية وضمان نجاحها.

ولكي لا يكون التغريد دون ضبط لإيقاع النغمة التي تتقبلها وتفهمها وتطرب لسماعها الأذن السوية والطبيعية والمنطقية، دعونا نستعرض المثال التالي: ضمن محتويات النسخة الإلكترونية لعدد 18 يونيو (حزيران) الماضي من «مجلة أرشيفات الطب الباطني» Archives of Internal Medicine الصادرة عن رابطة الطب الباطني الأميركية، عرض الباحثون من كلية الطب بجامعة هارفارد نتائج دراستهم الواسعة، التي شملت أكثر من 44 ألف شخص ممن تجاوزوا سن 45 عاما ومن بلدان شتى في أرجاء العالم ومن المصابين بأمراض مزمنة في القلب وبدرجات مرتفعة الخطورة very high risk heart disease، حول تأثيرات عيش حالة الوحدة الاجتماعية وعدم الاختلاط الاجتماعي على معدلات الوفيات. وتوصل الباحثون إلى نتيجة مفادها أن فئة مرضى القلب الذين يعيشون بمفردهم والذين لديهم مستوى متدن من الاختلاط الاجتماعي، عادة يتوفون بشكل أسرع من فئة أولئك المرضى المصابين بأمراض القلب والذين يشاركون آخرين في عيشهم المنزلي، أي الذين يعيشون مع شركاء حياتهم أو أبنائهم وبناتهم أو أقاربهم أو حتى في دور الرعاية الاجتماعية الصحية للعجزة وكبار السن.

وأعطى الباحث الرئيس في الدراسة، الدكتور ديباك بهات، تبريرا وتفسيرا مبدئيا للفرق الواضح في معدلات البقاء على قيد الحياة بين فئتي مرضى القلب، وهو يتعلق بمدى تأثيرات الوحدة وعدم الاختلاط الاجتماعي على التزام مرضى القلب بتناول الأدوية التي يصفها الأطباء لهم بغية ضمان نجاح معالجتهم الطبية. ومعلوم أن طاقة الطبيب في معالجة المريض هي في تقديم الخدمة له في المستشفى أو العيادة وكتابة الأدوية اللازمة لمعالجته كي يتسلمها من الصيدلية أو يشتريها، ومن ثم على المريض أن يحرص على تناولها بانتظام ووفق إرشادات الطبيب. وما لم يلتزم المريض بذلك، فلا قدرة للطبيب على ضمان نجاح جهوده في معالجة مريضه. وقال الدكتور بهات: «المرضى الذين يعيشون بمفردهم قد يواجهون صعوبات أكبر في معاودة الحصول على الأدوية التي نفدت لديهم أو في دوام الالتزام بالحرص على تناولها، كما أنه ليس بقربهم من يستطيع مكالمة الطبيب أو أقسام الإسعاف بالمستشفيات إذا ما تدهورت حالتهم الصحية». وأشار الباحثون إلى نتائج دراسات سابقة لاحظت قوة العلاقة السلبية بين الوحدة والانعزال الاجتماعي وارتفاع الإصابات بطيف واسع من الأمراض والاضطرابات الصحية بدءا من نوبات الجلطات القلبية ووصولا إلى ضعف مستوى مناعة الجسم وقدرته على مقاومة الإصابات بالأمراض.

وعامل العيش حياة الوحدة والانعزال الاجتماعي، أيا كانت مبرراته أو ظروفه، ذو تأثيرات صحية سلبية على نجاح «العملية العلاجية» إلى حد التسبب في ارتفاع معدلات الوفيات، وهو واحد من عوامل شتى ذات تأثيرات صحية سلبية مماثلة لا علاقة لها بجهود الأطباء في تقديم الرعاية الطبية في المستشفيات أو العيادات.

* استشاري باطنية وقلب

مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض

[email protected]