السياسة والوقوع في فخ إضاعة الوقت

TT

في الحرب العالمية الأولى، أقامت تركيا في مدينة العقبة بطارية مدفعية بحرية جعلت من المستحيل على جيوش الحلفاء المرور من البحر الأحمر أو التقدم في صحراء سيناء، كان تقدير الخبراء العسكريين في ذلك الوقت أن هذه المدفعية قادرة على الفتك بأي قطعة بحرية تقترب من مضيق العقبة، وبغير أوامر أو اتفاق من القيادة العسكرية، قاد لورنس العرب مجموعة قليلة من الرجال من داخل الجزيرة العربية وسار بهم شمالا إلى العقبة في ظروف بالغة الصعوبة إلى أن فاجأ القوات التركية واستولى على الموقع وأسر الكثيرين. وفي المساء قام أحد معاونيه بقتل هؤلاء الأسرى، يقول لورنس: لست أشعر بالاستياء لأسباب أخلاقية، بل لأنني أعرف أن أسوأ الأشياء في التاريخ هي تلك التي لا لزوم لها.

هذا هو الدرس الأول في السياسة، لا تصدر قرارا لا لزوم له. لا تقم بفعل لا لزوم له. وفي لغة التخاطب اليومية في العامية المصرية وكل العاميات العربية، هناك تحذير من فعل الأشياء إلى لا لزوم لها. «مش لازم» «مالهاش لزوم الحكاية دي» «كان لازم يعني تعمل كده» «لازمتها إيه الحكاية دي» ثم تنتقل العامية نقلة أخرى جديرة بالتأمل «الحكاية مش حابّة.. (اشتقاق من كلمة أحب ويحب)» هناك علاقة حب إذن بين القرار والناس تحتم أن يحبوا هذا القرار.

في المسرح وفي كل أنواع الدراما تكون أسوأ المشاهد هي تلك الواجب حذفها، وحتى في كتابة المقال، الكلمة الزائدة تثقل المعنى وتمنعه من الحركة الحرة في ذهن المتلقي، أعرف طبعا أنك حاد الذكاء (كل قرائي كذلك) وأنك تتوقع مني أن أسألك، هل القرار الذي أصدره الرئيس محمد مرسي بإلغاء حكم المحكمة الدستورية العليا بحل مجلس الشعب، كان له لزوم؟ والإجابة حتى ولو لم تسألني هي: لأ.. لم يكن له لزوم، أي إنه يمكن وضعه بسهولة في خانة أسوأ الأعمال في التاريخ كما يقول لورنس العرب ولورنس الإنجليز وأي لورنس على وجه الأرض. والسؤال هو، لماذا يصدر رجل السياسة قرارا لا لزوم له؟

والإجابة التي سأثبتها لك بعد قليل هي: إضاعة الوقت.

ستهب عواصف، ويصيح بعض الناس ويصرخون ويسرعون إلى المحاكم حيث يقدم كل منهم طعنا أو استئنافا للطعن، وتنشط برامج التوك شو وتأتي بمن هم مع الحكم ومن هم ضده، ثم تضيف إليهم من هم معه وضده في الوقت نفسه، وتنشط حركة استيراد الورق وأحبار الطابعات وتنشغل فنلندا بقطع المزيد من أشجار الغابات وتحويلها إلى ورق تصدره إلى مصر، وينهمك القضاة في طول مصر وعرضها بقراءة ملايين الصفحات، ويواكب ذلك كله أن تتقدم السيدة آمال فهمي للسيد الرئيس طالبة أن يتحدث إلى المستمعين لمدة خمس دقائق يوميا في رمضان، ويحل لهم مشكلاتهم عبر الأثير، فيوافق (لا بأس 30 × 5 = 150 دقيقة + 3 دقائق تفكير في حل كل مشكلة، 30 × 3 = 90 دقيقة ثم تنشغل رياسة الجمهورية كلها بمتابعة التعليقات على الحلول التي سيقدمها يوميا للمواطنين وستكون بالآلاف طبعا) ثم ينتهي ذلك كله، وعندما نفكر فيما حدث نكتشف أن ما تحقق هو فقط ضياع الوقت بسبب قرار سياسي في الحالتين لا لزوم له.

القرار السياسي قادر بذاته على خلق واقع جديد، طبيعي وقابل للاستمرار.

هذا العالم مكون من أنغام، غير أن الأنغام لا تعزف نفسها بنفسها، هناك عازفون ينتظمون في أوركسترا كبير، وهناك نوتة موسيقية غير قابلة للتعديل أو للعب أو الألاعيب وهناك مايسترو وظيفته قيادة هذا الأوركسترا لتحقيق هذه النوتة في أجمل نغماتها، هو يقود العازفين في رقة وحزم بإشارات من عصاه، ولكنه قطعا لا يفكر في ضرب أحد العازفين بهذه العصا، أو الوقوع في خصومة مع عازفي الآلات النحاسية مثلا.

القرار السياسي لا يصدر بدافع الخوف أو الرغبة في حماية الذات، أو لاكتساب شعبية أو لتحقيق أمجاد بل لتغذية احتياج حقيقي عند المستهلك وهو الشعب. وصحة أي قرار سياسي تنبني على أنه طبيعي وقابل للنمو والاستمرار. هذا هو القرار السياسي الذي يتوحد بالوقت فلا يضيع منه لحظة. هذا هو القرار الطبيعي والقادر على إصداره الأشخاص الطبيعيون. رجل السياسة يعمل عند شعبه غير أنه من وجهة نظر عملية يعمل عند شعوب الأرض جميعا وعليه أن يعي ما هو طبيعي عندها وما هو غير طبيعي. وعندما يقول المصريون «لكل وقت أذان» فهم قطعا يعنون أن لكل عصر مفرداته التي يتحتم على رجال السياسة التعامل بها في الحياة اليومية. ما هو طبيعي عند الناس في كل أنظمة الحكم الطبيعية يجب أن يكون طبيعيا عندنا أيضا ليس على سبيل التقليد ولكن حرصا على الوقت الذي هو ثروة البشر الأولى على الأرض.

نحن نذهب إلى الأطباء ومعامل التحليل لعمل فحوصات طبية دورية للتأكد أن أجسامنا تعمل على نحو صحيح وأيضا من أجل اكتشاف الأجزاء التي انتابها العطب لإصلاحها. في السياسة أيضا علينا أن نتولى نحن علاج أنفسنا لكي نتخلص من كل المخاوف والمفاهيم الضارة القديمة التي عشنا بها طويلا. الناس تبحث عن طريقة تضيّع بها الوقت عندما يستولي عليها الإحساس بأن الحياة عبء ثقيل. لذلك يبحثون عن طرق يتخلصون فيها من هذا العبء. وفي اللحظة التي تشعر فيها بأن الحياة عبء عليك تفقد حبك واحترامك لها وتفقد أيضا درجة الخيال اللازم لحل مشكلاتك.

كل المفاهيم الشرقية القديمة للسياسة والحكم في المنطقة هي ناتجة عن كل صنوف الدكتاتوريات التي عشنا في ظلها، والتي أنتجت مفاهيم بلهاء للعمل السياسي تمجد الخبث والذكاء والشر والقدرة على القضاء على الخصوم أو على الأقل محاصرتهم ومنعهم من الحركة. غير أنه في كل الأحوال، عبقرية المجهود مطلوبة عند المشتغل بالسياسة ولكن قبل ذلك كله لا بد أن يكون متمتعا بالقدرة التي لا حدود لها على الحب، حب الحياة والغيرة عليها والاستعداد الدائم للدفاع عنها. في غياب الحب يضيع الوقت.

هل الثروة وحدها كانت السبب في ذلك النمو الجدير بالإعجاب عند دول الخليج؟ أم أن الدافع لهذا التقدم كان حب الحياة والرغبة في أن تتمتع الناس بالحياة الطبيعية في بيئة طبيعية تمشي على خط الإنجاز الدائم.

لماذا يفكر الفقراء التعساء فقط من سكان المنطقة في استعادة الخلافة الإسلامية؟ لماذا لم يفكر في استعادتها الأثرياء من حكام المنطقة؟ الإجابة هي بعد إذنك: الحياة بالنسبة لهم لا تشكل عبئا لذلك لا يريدون إضاعة وقتهم ووقت شعوبهم فيما لا يفيد.