من الصهر المحظوظ حسين إلى الخل الوفي مناف

TT

استضعف الرئيس صدام حسين الكويت فغزاها يوم 2 أغسطس (آب) 1990 تحت «حيثية» تاريخية؛ بأن الكويت جزء من العراق. وما لبثت «المحافظة التاسعة عشرة» أن استعادت سيادتها بحرب عربية - إسلامية - دولية قادها الرئيس جورج بوش الأب ورئيسة الحكومة البريطانية، مارغريت ثاتشر، وأعادت العراق كما وعد بوش إلى العصر الحجري، ثم جاءت صولة بوش الابن وحليفه البريطاني رئيس الوزراء توني بلير (مستشار العقيد معمر القذافي لاحقا) تلغي دور العراق كرقم صعب في المعادلة الإقليمية. وكان الانطباع العفوي لدى إخواننا الخليجيين وللأطياف العاقلة من أبناء الأمتين أن الذي أصاب العراق هو «لعنة الكويت» شبيهة «لعنة الفراعنة»، التي قيلت كقصاص يصيب العابثين بالثوابت، أوطانا كانت أو شعوبا أو خصوصيات.

واستضعف الرئيس حافظ الأسد لبنان، فاقتحم نقاط الضعف فيه وكذلك ضعفاء الولاء الوطني، وذلك تحت «حيثية» إنقاذ طائفة من أطياف ساهم النظام الذي يقوده في شد أزرها وتوظيفها ضمن رزمة من الشعارات، لعل أبرزها الممانعة للجشع الإسرائيلي الذي سبق أن ضم الجولان إلى خريطة احتلالاته للأرض العربية. ولم يجد لبنان من يسانده ويعيده دولة لها رئاساتها وصيغتها سوى «اتفاق الطائف»، الذي ساء الحكم السوري أن يؤخذ به، فكانت الجولة الثانية من التعامل السوري مع لبنان أكثر تعقيدا من الجولة الأولى، الأمر الذي أوجب حدوث ضغوط دولية تلازمت مع حدوث اغتيالات، أبرزها تصفية رفيق الحريري، أحد أهم أربعة أقطاب من الطائفة السُّنية شغلوا منصب رئاسة الحكومة اللبنانية، إلى جانب الزعامة الشعبية، وهم (حسب التسلسل) رياض الصلح وصائب سلام ورشيد كرامي ورفيق الحريري. وبعد الاغتيالات وبسببها كان الخروج القسري للوجود العسكري السوري من لبنان ليحل محله وبالتدرج التحرش بكل أنواعه وابتكاراته، اعتمادا على «اللوبي السوري» في لبنان، الذي جمع رمزي الزعامة الشيعية؛ نبيه بري، رئيس حركة «أمل»، وصاحب البرلمان الذي لا قدرة لغيره على الاستحواذ عليه، والسيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، إلى اثنين من الرموز السياسية الشعبية، هما طلال أرسلان، المتقاسم مع وليد جنبلاط زعامة الطائفة الدرزية، ثم لاحقا العماد ميشال عون، الذي قلل اصطفافه إلى جانب حزب الله وحماسته المفرطة للرئيس بشار الأسد، بعد عداوة مفرطة هي الأخرى ضد النظام السوري، من السند الماروني الأساسي لهذا النظام، ونعني به سليمان فرنجية الحفيد.

بعد الذي حدث وما زال يتواصل حدوثه في سوريا، دما ودمارا وانشقاقا وهلعا منذ عام ونصف العام، وتشبه وقائعه في بعض مراحلها تلك الوقائع التي سبق وحدثت في لبنان بين منتصف عام 1975، وحتى إعلان «اتفاق الطائف» يوم 22 أكتوبر (تشرين الأول) 1989، فإن الانطباع العفوي لدى إخواننا العرب، وكذلك لدى اللبنانيين، سواء الطيف الخصم للنظام السوري أو الطيف الساكت عن الحق، المعروف بـ«الشيطان الأخرس»، أن ما يصيب سوريا هو «لعنة لبنان»، التي هي عند التأمل في ظروفها وتداعياتها توأم «لعنة الكويت»، التي أصابت العراق.

لم تنته «اللعنتان» فصولا. ذلك أنه ما بين غمضة عين والتفاتتها وضع الصهر المحظوظ حسين كامل ما خف وزنه وغلا ثمنه ومعه زوجته رغد، ابنة الرئيس صدام، وبقية أفراد العائلة، في سيارة رئاسية، بطبيعة الحال. ووضع شقيقه صدام (على اسم الرئيس) وعائلته في سيارة رئاسية مماثلة وغادر الركب بغداد تحت جنح الظلام متوجهين إلى الأردن، حيث استضافهم الملك حسين حليف الرئيس صدام، ومن دون أن يدري (وتلك مصيبة) أن الشقيقين الصهرين (صدام كامل هو زوج سجى الابنة الثانية للرئيس صدام) أو كان يدري، وتولى ترتيب المسألة (وهنا المصيبة أعظم)، جاءا من أجل اللجوء السياسي تاركين العم الرئيس صدام يحاول جاهدا درء تداعيات العقوبات والحصار ومداواة خيبة الأمل من التعامل العراقي مع المملكة العربية السعودية وبقية دول الخليج المصدومة من أسلوب تعامل الرئيس صدام معها، وبالذات كيف أن حلاوة الكلام الذي طالما سمعه بعض قادة دول الخليج منه، وبالذات الملك فهد بن عبد العزيز والشيخ جابر الأحمد والشيخ زايد بن سلطان، كان نقيض النوايا التي جسدها غزو الكويت. وهذا النوع من الحلاوة للكلام لطالما سمعناه من الرئيس حافظ الأسد من خلال كلامه عن الشعب الواحد في بلدين. ولم يقتصر فِعْل حسين كامل على اللجوء، وإنما أعلن بصريح العبارة أن اعتراضاته على النظام كثيرة، وقدم نفسه ضمنا للرأي العام الدولي على أنه رجل المرحلة المقبلة في العراق، من دون أن يتذكر، أو تذكر لكن لم يُذكر، أنه قبل لجوئه إلى الأردن كان يزايد في عشاء استثنائي لرموز العشيرة أقامه الرئيس صدام وأراده مناسبة لمحاسبة الذات والممارسات وإصلاح ما يمكن إصلاحه وانتهاج سياسة جديدة لترطيب الأجواء مع الإدارة الأميركية والأشقاء العرب. وتمثلت المزايدة، كما سمعتها من الخصم اللدود له، برزان التكريتي، في أن حسين كامل، الذي كان حتى هذا «العشاء السري» الرجل الأقوى برضا العم الرئيس بذلك في النظام، ما دام ممسكا بـ«هيئة التصنيع العسكري» ذات الميزانية الخارقة السخاء وغير الخاضعة للمساءلة والتدقيق، وما دام حقق بفعل المصاهرة ترقية من رتبة متدنية إلى رتبة فريق (هكذا دفعة واحدة وخارج سياق المؤهلات وعدم مراعاة الجنرالات أصحاب الخبرة والكفاءة والأوسمة الكثيرة)، قال إنه يرى أن الإدارة الأميركية تريد تركيع العراق، وإنه في ضوء تجربته كمسؤول عن التصنيع العسكري يرى أنه «بالمزيد من التحمل، وكثير من الصبر يمكن إفشال المؤامرة الأميركية». في نهاية الأمر حدث التركيع وانهزم أبو علي، أي حسين كامل.

مغامرة حسين كامل كانت شبيهة بمغامرة غزو الكويت من حيث النتائج. فالإدارة الأميركية التي استدرجت الرئيس صدام إلى الغزو هي نفسها التي وضعت النهاية المأساوية له وللنظام وللعراق. وأما حسين كامل، فإن العم صدام استدرجه للعودة من الملاذ الأردني عن طريق رفيق آخر، وأوكل إلى العشيرة أمر محاسبته، وكان الحساب العسير تصفية الرجل والد أحفاده إعداما.

ما فعله حسين كامل، الصهر المحظوظ، وكما لم ينل هكذا حظوة صهر آخر عدا آصف شوكت، صهر الرئيس حافظ الأسد، وأشرف مروان، صهر الرئيس جمال عبد الناصر، وجبران باسيل، صهر العماد ميشال عون، يندرج بشكل ما ضمن «لعنة الكويت»، وهو قريب الشبه بما فعله الخل الوفي، العميد مناف طلاس، ويندرج أيضا ضمن «لعنة لبنان»؛ فكما أن حسين كامل كان عمليا وبفعل المصاهرة الرجل الثاني في نظام العم صدام، فإن العميد مناف طلاس كان يشكل حالة داخل نظام صديقه الرئيس بشار الأسد لا ترتاح لها الحلقات المتكاثرة حول الرئيس. فهو يصطفيه ويطيب له ولزوجته تناول العشاء معه ومع زوجته. ولأن من هو في قمة السلطة تضطره الظروف أحيانا للفضفضة، فإن العميد مناف على نحو ما هو متيسر لنا من معلومات كان الخل الوفي، كاسرا بذلك مقولة المستحيلات الثلاثة، التي أولها الغول وثانيها العنقاء. وعندما تتطور الأمور ويتسع هامش المحنة السورية ولا يعود صدر العميد الرستني قادرا على التحمل، فإنه بحكم نوعية العلاقة يجد نفسه إما يصارح فتنتفض بعض رموز الطائفة والعائلة الأسدية عليه، وإما يسكت عن الضيم السوري عموما ومأساة الربع في الرستن وسائر مناطق حمص والشمال ومعها المناطق القريبة من عاصمة الأمويين التي ساهم والده العماد مصطفى في تقوية أواصرها كوزير دفاع وخل وفيّ أيضا، لتبقى طوع إرادة صديقه الرئيس حافظ الأسد، فيحتفظ بالمنصب ويرتضي انتزاع مشاعر النخوة منه، وإما ينصرف طوعا بعد توضيح ومن دون لجوء أو حمل ما خف وزنه من المال لأنه لا يحتاجه، ويلتئم الشمل، بما في ذلك الزوجة والابن بعدما انتهت السنة الدراسية في الجامعة الأميركية في بيروت، وبكل حرص على تفادي ما يزعج الرئيس الذي يعاني في دمشق، في رحاب الشقيقة ناهد، المستقرة في باريس المستضيفة الوالد مصطفى، الذي كما الابن انسحب بهدوء مكمودا على الفاجعتين؛ الفاجعة الشخصية بما آل إليه حال الرئيس بشار الأسد الذي كما الرئيس صدام بقي يعاند حتى لحظة النهاية، فها هو بعدما لم يصحح العلاقة مع لبنان يخسر سوريا بالتدريج والسند السعودي والخليجي والعرب عموما ومعظم دول العالم عدا إيران وفنزويلا. والفاجعة الرستنية - الحمصية خصوصا والسورية عموما حيث لا يفيد بعد الآن أي توضيح ولا حتى أي اعتذار.

يبقى أنني بهذه الخواطر أعرض ملامح من جديد - قديم «المآثر» البعثية مع التأكيد أن «البعث» حلو المذاق كعقيدة يبرع الرفاق فيها حتى طلوع الفجر في التنظير، لكنه بطعم العلقم كحكم ونظام.. حمى الله سوريا من بقية المكاره وهدى العراق إلى سواء السبيل.