في زاوية شو

TT

من المراكز الثقافية العربية الجديرة بالزيارة في لندن «ديوان حديث الأمة» الذي يقدم محاضراته وحفلاته ومناقشاته مساء كل سبت. سألني صديقي الدكتور حسني كريم: لا أراك هذه الأيام في المتحف البريطاني. فقلت: أصبحت أقضي أمسيات السبت في «ديوان حديث الأمة». المتحف البريطاني نشاطاته أعظم ولكن الطعام في «ديوان حديث الأمة» أدسم.. فصديقات الديوان يتطوعن لإعداد أشهى الأكلات العربية من الكبة الحلبية إلى الدولمة البغدادية لاستضافة الرواد بعد المحاضرات. بيد أن الديوان وسع نشاطه مؤخرا بتنظيم سفرات ثقافية إلى الأماكن الجديرة بالزيارة والاطلاع. كان من آخرها هذه السفرة إلى بيت سيدي ومرشدي جورج برنارد شو، البيت الذي يعرف بزاوية شو.

سبق لي أن زرت هذه الزاوية، ولكن مثلما يكون طعام الديوان أدسم تجد أن صحبة أعضائه في مثل هذه النشاطات أنغم. ومثلما تجد للديوان متطوعاته الفاضلات، تجد لبيت برنارد شو متطوعاته الساهرات على إدامته واستقبال زواره. وفي الحديث لهن متعة مضافة. قلما تسأل إحداهن عن شيء إلا أجابتك بطرفة من طرائف شو. وتسمعها دائما تبدأ بالقول «هذه طرفة أرويها لأول مرة.. » كثيرا ما تساءلت: متى ستنتهي هذه الطرائف «الأول مرة» وقد مات شو قبل أكثر من خمسين سنة؟!

قالت: نعم، أنا رأيت شو والتقيته عندما كنت في السابعة من عمري. رأيته في الطريق بلحيته البيضاء المسترسلة وشعره المقرن كقرون الشيطان، يمشي بدشداشته التايلاندية الطويلة، فقلت لوالدي: «What a funny man!» (يا له من رجل مضحك!)، سمعني برنارد شو فأسرع ومسك بيدي وقال: «أنا رجل مضحك! نعم! هذه مهنتي!».

يقع بيت شو في سان لورنس، وهي قرية صغيرة متوارية عانينا صعوبة في الوصول إليها. سألت إحدى المتطوعات: لماذا اختار شو هذا المكان مقاما له؟ روت لي - لأول مرة - أنه عندما فكر بالتقاعد في الريف، ظل يبحث عن مكان مناسب.. حتى زار هذه القرية ودخل مقبرتها الصغيرة فرأى شاهدا يقول: «هنا ترقد جين ولز. ماتت في عز شبابها في الثمانين من عمرها». لاحظ ذلك شو وقال: القرية التي يعتبر أهلها سن الثمانين شبابا جديرة بالعيش فيها. فنقل عفشه إليها واشترى هذا البيت. وبالفعل عاش إلى سن الرابعة والتسعين، ولولا سقوطه أثناء العمل في الحديقة وكسر رجله لعاش حتى تجاوز المائة، أو - كما قال - إلى الأبد.

خرجت إلى الحديقة الواسعة المحيطة بالبيت.. حيث جلسنا وتغدينا على عشبها. راعني جمالها وحسن نسقها، فأعربت عن إعجابي للجنايني المتطوع لرعايتها. قال: نعم. هذا تصميم شو وزرعه. ونحن نحرص على الحفاظ على الحديقة كما تركها. ومضى ليروي لي - لأول مرة أيضا - أن سيدة مارة في الطريق أعجبت بها كذلك ورأت برنارد شو يحفر ويزرع فيها. فظنته جنايني فقالت له: يا رجل.. يعجبني عملك. أريدك أن ترعى لي حديقتي.

- «كلا يا سيدتي.. لا أستطيع. فأنا مرتبط بعقد هنا».

- «حسنا.. تعال إليّ عندما تنتهي مدة عقدك هذا».

- «آسف.. فعقدي لا ينتهي مع الأسف.. إنه عقد زواجي!».