سوريا: هل يسبق تآكل النظام من الداخل مناورات المجتمع الدولي؟

TT

«محاولة الحوار مع شخص تخلّى عن التعقل، تشبه إعطاء الدواء لميت».

(توماس باين)

من جسر الشغور وحي بابا عمرو الحمصي، ومن الحولة إلى القُبير، ووصولا إلى التريمسة، يواصل «جرّاح» دمشق، الدكتور بشار الأسد، «عملياته الجراحية» الدموية لإنقاذ الشعب السوري.. من نفسه!

انطلاقا من أقوال الرئيس السوري وأفعاله، على امتداد الأشهر الـ17 الماضية، يغدو من العبث مواصلة الكلام. ومن واقع الإخفاق التام لمهمة الوسيط الدولي - العربي كوفي أنان، سواء من حيث التصوّر أو الممارسة، حان الوقت لكي يكف المجتمع الدولي عن العبثية الدبلوماسية.

في هذه الأثناء، ثمة شبه إجماع على أن سوريا ما زالت بعيدة عن نهاية النفق. ويقوم شبه الإجماع هذا، بجانب العنصرين المذكورين آنفا - أي مواقف الأسد وانهيار مهمة أنان - على بقاء المواقف الدولية للأطراف الدولية الفاعلة على حالها. ففي ظل انعدام الجدية بتبنّي استراتيجية الردع، وعلى الرغم من الأرقام المفزعة لعدد الضحايا وانتشار المآسي الإنسانية الموثقة بالصورة والأرقام، سيواصل كل فريق صاحب مصلحة ابتزاز منافسيه على حساب الشعب السوري.

ولئن كانت الولايات المتحدة تسعى جهدها لتحاشي اعتماد الحسم لاعتبارات انتخابية وإسرائيلية، ينشط في دول غربية فاعلة تياران متناقضان فكريا.. ما زالا مستعدين (بل متحمسين) لتجاهل آلام الشعب السوري والظن خيرا بقاتليه، هما:

1 - تيار اليمين العنصري، الذي يرى أن الشعب السوري (مثله مثل أي شعب عربي أو مسلم) لا يفهم الديمقراطية ولا يستحقّها، وهو إذا مارسها فسيمارسها بطريقة خاطئة، وسيصوت حتما لقوى اليمين الأصولي والديني. وبالتالي، لماذا يورّط الغرب نفسه في مأزق ليس له فيه أي مصلحة؟

2 - تيار اليسار المتطرّف، الذي تدفعه مراهقته السياسية بصورة تلقائية أحيانا إلى التعاطف مع أي خطاب، صادقا كان أم كاذبا، يدعي الثورية والنضال والعداء للإمبريالية والولايات المتحدة. ومع الأسف، هذا التيار موجود ومتحرك حتى في بعض وسائل الإعلام الجاد في دول كبريطانيا وألمانيا وفرنسا.

في الجهة المقابلة على المسرح الدولي، تقف القوتان الشيوعيتان سابقا؛ روسيا والصين، اللتان تتصرفان بعد انهيار الشيوعية، تماما كما تصرفت الإمبرياليات عبر التاريخ. وهما عندما تتآمران اليوم على مصير الشعب السوري، وتتواطآن مع قاتليه، فهما لا تستهدفانه مباشرة كشعب سوري، بل كانتا ستتصرفان بالأسلوب المتغطرس واللاأخلاقي نفسه مع أي شعب في أي مكان آخر من العالم تتعارض فيه مصالحهما الوطنية مع مصالح قوة كبرى منافسة. وبالتالي، كما شهدنا على امتداد الأشهر الـ17 الأخيرة، لم تغير موسكو وبكين مقاربتيهما من الأزمة السورية قيد أنملة، بل ذهبتا بعيدا في عداء مفتوح مع الشعب السوري، ومن خلفه شعوب العالم العربي التوّاقة إلى التحرر والعيش بكرامة. والمرجح أن انعدام حماسة واشنطن والعواصم الغربية للحسم والردع، وعجز الدول العربية عن المعاقبة - أو حتى المساءلة - كانا عاملين مؤثرين في إقناع القيادتين الروسية والصينية.. ليس فقط بعرقلة أي مسعى دبلوماسي من قلب مجلس الأمن، بل بمواصلة تقديم الدعمين السياسي والتسليحي لنظام الأسد كي يواصل محاولات إخماد الثورة الشعبية بالحديد والنار.

بعد كل مجزرة ارتكبها النظام السوري تكاثر الكلام وتطايرت الاستنكارات الجوفاء، ولكن في كل مرة همدت الأمور.. وكأن شيئا لم يكن. وهذه المرة أيضا بعد مجزرة قرية التريمسة بمحافظة حماه، بدأت باكرا محاولات لتجهيل الفاعل، تمهيدا لتمييع القضية وإلباس ما حصل غلالات من الشك، علها تساعد النظام على الاحتفاظ بزخم عملياته القمعية الدموية، وتمنحه متنفسا جديدا يستبق نوبة أخرى من التفكك البطيء في بنيته العسكرية والسياسية.

إن الرهان على مجلس الأمن، ولا سيما بعد الحصيلة الفارغة المتوقعة للقاءات المعارضة السورية في موسكو، إمعان في إضاعة الوقت وخذلان السوريين. وتوقّع حدوث تغير جدي في الموقف الأميركي المفرط في سلبيته، على الأقل قبل أن تدب الحرارة في الحملة الانتخابية الرئاسية للحزب الجمهوري، سذاجة سياسية تقارب الغباء. ولا يبدو أقل سذاجة التفاؤل بقرار عربي شجاع بتجميد العلاقات الاقتصادية والاستثمارية والثقافية مع روسيا والصين.

كل هذا يعني أن قدر الشعب السوري هو ربحه معركته في أرضه.. وليس في عواصم القرار الدولي.

الشعب السوري يدرك اليوم أنه سيربح معركته، طال الزمن أم قصر، لأنه ما عاد أمامه من خيار غير ربح المعركة ضد قاتليه، وليس لأنه مدعوم من الخارج. فهو في حقيقة الأمر لا يتلقى ولو جزءا بسيطا من الدعم الذي يستحقه صموده ونضاله. وهذه القناعة هي نقطة التحول التي ستؤثر في أولئك الذين اختاروا الرهان على مرور الوقت، أو انتظار انهيار الثورة، من دون أن يشاركوا في التآمر عليها.

بعض راصدي الوضع السوري يشيرون إلى «قوة دفع» أخذت تميز حركة الانشقاقات، سواء من قبل الشخصيات المدنية (سياسية ودبلوماسية) أو العسكرية - الأمنية، ولا شك في أن تطورات الأسبوع الفائت المتعلقة بالعميد مناف طلاس والسفير نواف الفارس تستحق أن يُنظر إليها بإيجابية، بصرف النظر عن مدى جديتها. غير أن طبيعة النظام، القائمة على التمويه والتضليل، لا تشجع كثيرا على الاطمئنان إلى تنامي «المعارضين» من أوساط كانت حتى الأمس القريب من رموز النظام وفي قلب أجهزته ومنظوماته السياسية، وإن كان هذا ليس سببا كافيا للتردد في تشجيع الانشقاقات وتسهيل حدوثها وفسح المجال لأي منشق لإعادة تأهيل وضعه. إن القصد من هذا الكلام هو اعتماد الحد المقبول من الواقعية والحصافة لكي لا ترتكب الثورة السورية مزيدا من الأخطاء التكتيكية التي ارتكبتها حتى الآن؛ إما نتيجة سلامة طويتها أو لتحمسها للتغيير السريع.

ولقد شاهد السوريون كيف ظهر بعض الأشخاص مدعين صفة «المعارضة» في أول «لقاء مفتوح» دعا إليه النظام تحت رئاسة نائب الرئيس فاروق الشرع، خلال فترة قصيرة من اندلاع الثورة. بل ألقى بعضهم خطبا عصماء خلال ذلك اللقاء يصعب تصديق جرأتها من «معارض».. مشارك بشخصه أو بتنظيمه ضمن «الجبهة الوطنية التقدمية» التي يرعاها النظام. ومن ثم، بعد مرور بعض الوقت، نشط هؤلاء «المعارضون» أكثر، وصاروا يعقدون اجتماعات في عواصم أجنبية وعربية كـ«معارضين»، قبل أن تنكشف الكذبة، عندما خاضوا «الانتخابات - المهزلة» التي أجراها النظام أخيرا، وفازوا فيها بمقاعد جنبا إلى جنب مع «شبّيحة» النظام وأدواته المفضوحين. بل إن اثنين من «المعارضين» المندسين دخلوا الحكومة الجديدة.. بل وتولى أحدهم منصب نائب رئيس وزراء!

«معارضون» من هذه النوعية.. من مصلحة الثورة السورية كسب عداوتهم لا تأييدهم.