قطار أبو سمبل

TT

تهتم الصحافة المصرية، مثل كل صحافة عربية، بالقضايا الكبرى، مثل أزمة الشرق الأوسط، والوحدة العربية، والحرب الإقليمية المحتملة. في العدد الأخير من «ناشونال جيوغرافيك» (الطبعة العربية) قرر الصحافي الأميركي جيفري بارتوليت أن يترك ميدان التحرير لساكنيه ويخرج إلى الشعب المصري ليرى كيف يعيش وما هي همومه ومخاوفه العادية. يبدأ تدوين رحلته في محطة القطار في أسوان: «في عربتنا كانت نوافذ كثيرة مكسورة أو مشقوقة. لا مكيفات هواء والرائحة النتنة تنبعث من المراحيض وتزكم الأنوف. الباب الزجاجي لجهاز إطفاء الحريق مسحوق وبدا أنه لم يستعمل قط. وكانت امرأة بلا أسنان مثرثرة في ثوب أسود وتحمل علبة كرتون فيها ثلاث دجاجات. وبين حين وآخر كانت هذه الدجاجة أو تلك تقفز من العلبة وتقاقي بشكل محموم». يحاور الصحافي الركاب الآخرين. يقول له مؤذن يسافر مع عائلته: «أليس جوهر الحياة أن يعيش الإنسان في أمان؟!». وكانت زوجته تضع منديلا على أنفها تدرأ به الروائح الكريهة.

«في جل الأماكن التي زرناها في مصر كان الناس يعبرون عن قلقهم من تدهور الوضع الأمني. وأصاب الجميع شعور بالذعر من تنامي حوادث السرقة، وهو أمر لم نكن نسمع عنه من قبل. وثمة تخوف من احتمال سقوط المجتمع المصري في براثن الفوضى وانعدام القانون. وعلمت أن سائق أجرة في الأقصر اقتنى مسدسا ووضعه تحت كرسيه للدفاع عن نفسه». معابد أبو سمبل مغلقة الأبواب، أكشاك بيع التذاكر كذلك. الأدلاء السياحيون غائبون. كان ذلك صيف 2011 ومصر في بدايات القلق. ويقول عالم آثار للمراسل: مبارك لن يكون آخر الفراعنة ولم يكن أول فرعون تطيح به ثورة شعبية.. «المصريون يحبون السلالات!».

وما يقلق عالم الآثار أحمد صالح أن «بلوغ الديمقراطية صعب في مصر. لقد ارتفعت نسبة الأمية 40 في المائة في أوساط الذين بين 25 و65 سنة من العمر. ومصر مجتمع أبوي في أي حال». ثم يقول: «في كل محطة خلال رحلتنا بالقطار، من أبو سمبل إلى الإسكندرية عبر بلدات ومدن ومحافظات ضفاف الدلتا ووادي النيل، كنا نكتشف أشياء جديدة، وفي النهاية توصلنا إلى حقيقة مفادها أن هناك (مصر أخرى) تختلف عن ميدان التحرير، وهي حبلى ليس بالتطلعات فقط بل بالهواجس أيضا». كانت كذلك القطارات في الهند وهكذا كانت نسبة الأمية والفقر. كانت أفظع في سنغافورة وماليزيا والصين. كانت أسوأ في إندونيسيا. كانت أشد في البرازيل والإكوادور والباراغواي. ليس ما يمنع مصر من التفكير في المسائل الصغيرة كالحياة ومستوى المعيشة والتعليم الحقيقي والطبابة. كان نهرو يحلم بتقليد مصر سعد زغلول. وكتب إلى ابنته من السجن أن أفضل الحلول هو التماثل مع حزب «الوفد». إليكم أين أصبحت التجربة الديمقراطية في الهند. «المجتمع المدني»، أي الكفي، لن يقوم على أكتاف محمد مرسي والإخوان وحدهم. ويحتاج إلى إجماع مصري، ليس على الديمقراطية، بل الخروج من حالة القطار الذي رائحته لا تطاق.