هيمنة الإسلاميين

TT

يبدو أن ليبيا ما بعد الثورة قد انتخبت حكومة معتدلة نسبيا لديها استعداد للتعاون مع الغرب، وهذا نبأ جيد لكنه غير مطمئن بشكل نهائي، ذلك أن ليبيا ليست بلدا بقدر ما هي بئر نفط لها ساحل عريض تعيش فيه عشرات القبائل، وولاء الشعب هناك للسلطة الوطنية المركزية ضعيف. لكن حتى إذا تمكنت حكومة محمود جبريل من السيطرة على الميليشيات وإقامة نظام ديمقراطي فعال، فإن هذا سيكون حالة استثنائية في ثورات الربيع العربي.

فإذا نظرنا إلى تونس والمغرب، وهما أكثر البلدان العربية اقترابا من النموذج الغربي، سنجد أنه تم انتخاب حكومتين إسلاميتين - صحيح أنهما معتدلتان، لكنهما تظلان إسلاميتين. وفي مصر، التي تعد الأكبر والأقوى تأثيرا، شهدت البلاد اكتساحا إسلاميا، إذ لم تفز جماعة الإخوان المسلمين بالرئاسة فحسب، بل فازت تقريبا بنصف مقاعد البرلمان، بينما فاز إسلاميون أكثر مجاهرة بالتشدد بنسبة 25 في المائة، أي أنهم مجتمعين يهيمنون على أكثر من 70 في المائة من البرلمان، وهي نسبة تكفي للسيطرة على عملية كتابة الدستور الجديد (وهذا هو ما جعل الجنرالات يسارعون إلى حل البرلمان).

وعند سقوط بشار الأسد في سوريا، إن حدث، فأغلب الظن أن «الإخوان» هم من سيرثون السلطة هناك، وربما يكون الأردن هو التالي، في حين أن جناح «الإخوان» في فلسطين (وهو حركة حماس) يسيطر بالفعل على قطاع غزة.

ما الذي يعنيه هذا؟ يعني أن ثورات الربيع العربي تسمية مغلوطة، إذ هي في الحقيقة هيمنة إسلامية سوف تسيطر في الغالب على الحياة السياسية في المجتمعات العربية لجيل كامل. وتعد هذه هي المرحلة الثالثة من التاريخ السياسي العربي الحديث. المرحلة الأولى كانت الحكم شبه الاستعماري، الذي هيمن عليه البريطانيون والفرنسيون، خلال النصف الأول من القرن العشرين. والمرحلة الثانية كانت حقبة القومية العربية - التي اتسمت بالعلمانية والاشتراكية ومعاداة الاستعمار والتيار الديني - التي بانت إرهاصاتها مع الحركة التي قام بها تنظيم الضباط الأحرار في مصر عام 1952، وكانت الأداة التي اعتمدت عليها هي الديكتاتورية العسكرية، وقاد هذا الاتجاه جمال عبد الناصر، الذي رفع لواء العروبة، فذهب إلى حد تغيير اسم مصر إلى الجمهورية العربية المتحدة ودمج بلاده مع سوريا عام 1958. وكان من المفترض أن تكون هذه التجربة العبثية - التي استمرت لمدة 3 سنوات بالضبط - بداية وحدة عربية كبرى لم تحدث بالطبع. كما لجأ عبد الناصر إلى اضطهاد الإسلاميين بشدة - تماما كما فعل خلفاؤه القوميون، وآخرهم حسني مبارك في مصر والبعثيون في العراق (صدام حسين) وفي سوريا (الأسد الأب والأسد الابن) - باعتبارهم النقيض الرجعي لاتجاه الحداثة العربي.

إلا أن الحداثة المزعومة التي جاء بها المستبدون من أنصار القومية العربية فشلت فشلا ذريعا، حيث أنتجت نظما عقيمة شبه اشتراكية بيروقراطية فاسدة تركت جموع المواطنين (باستثناء المناطق التي أسهمت فيها الثروات النفطية في إخفاء هذا الوضع) غارقين في مستنقع الفقر والمهانة والقمع.

ثم جاء الربيع العربي، الذي شهد اندلاع سلسلة من الثورات بدأت في تونس ثم سارت باتجاه الشرق عام 2011، وظن الكثيرون في الغرب بسلامة نية أن المستقبل صار لهؤلاء الفتيان المتفتحين العلمانيين العصريين في ميدان التحرير. ولكن للأسف، فإن هذه القشرة البراقة من الحداثة الغربية لم تستطع أن تباري الإسلاميين المنظمين للغاية والجادين في طموحاتهم السياسية والذين يحظون بتأييد واسع، مما مكنهم من اكتساح هؤلاء الشباب من دون عناء، وإقصائهم في الانتخابات الوطنية. وبالتالي فهي لم تكن ثورة «فيس بوك»، بل كانت بداية ثورة إسلامية، حيث صعدت جماعة الإخوان المسلمين وسط حطام القومية العربية العلمانية لحل إشكالية الركود والتهميش العربي، رافعة الشعار الذي ضمن لها الفوز: «الإسلام هو الحل».

ولكن أي نوع من الإسلام السياسي؟ هذا هو ما يتوقف عليه المستقبل. هل هو الإسلام بصورته التركية المعتدلة أم بصورته الإيرانية المتشددة؟

ومن المؤكد أن رجب طيب أردوغان ليس نموذجا مثاليا يحتذى، فقد أدى تسلطه المتزايد إلى كسر قوة الجيش وتحييد القضاء واضطهاد الصحافة، وأصبح يوجد في السجون في تركيا صحافيون أكثر مما في الصين. لكن في الوقت الراهن، تظل تركيا موالية للغرب نسبيا (وإن كان هذا لا يمكن التعويل عليه أيضا) وديمقراطية نسبيا (مقارنة بجيرانها الإسلاميين).

وحتى الآن، اتخذت الهيمنة الإسلامية الجديدة في البلدان العربية المظهر التركي الأكثر لطفا، وقد حدث هذا بشكل طبيعي في المغرب وتونس، وبإكراه خارجي في مصر، التي ينظر الجيش فيها إلى نفسه باعتباره الوصي على مدنية الدولة، تماما كما فعل الجيش التركي طوال 80 عاما بداية من أتاتورك وحتى أردوغان.

لكن من الممكن أن يظهر حكم ديمقراطي حقيقي في البلدان العربية، فالإسلام المتشدد ليس حلا لأي شيء، كما تبين من القمع والتخلف الاجتماعي والنزاع المدني لحركة طالبان في أفغانستان والنظام الإسلامي في السودان والمرجعية الدينية في إيران.

وبالنسبة للإسلام السياسي المعتدل، إذا تحول في النهاية إلى إسلام متشدد، فسوف يفشل هو الآخر ويؤدي مستقبلا إلى اندلاع ربيع عربي آخر قد تكون الديمقراطية فيه هي الحل فعليا (كما كانت ستصبح على الأرجح في إيران لو لم يقم الزعماء الدينيون هناك بإخماد الثورة الخضراء بكل وحشية). أو من الممكن أن يتكيف مع الحداثة ويقبل بتداول السلطة مع العلمانيين، وبالتالي يحقق مع التطور نموذجا ديمقراطيا إسلاميا - عربيا أصيلا.

ربما يكون الأمر كذلك، لكن الشيء الوحيد الذي يمكن أن نكون واثقين منه اليوم هو أن القومية العربية ماتت، وأن التيار الإسلامي هو وريثها. هذا هو ما أنتجته ثورات الربيع العربي، وأول خطوة في سبيل الحكمة هي أن نواجه ذلك الواقع الصعب.

* خدمة «نيويورك تايمز»